وانا اقرأ لك ،أيها المثقف التعس المنشد، مقالك “هل غادر المثقفون؟” احسست بنسائم أمل تدغدغ مخيالي.. أمل ما لبث ان تحول إلى نار غضب “لا تُبقي ولا تذر”، ليمسي ما تبقى من “بنزين” في عروقي، ومن مرق قلمي لتحضير وجبات السندويتش السريعة”، من اجل تغذية للمثقف السريع إلى كتلة سيليكونية لا “تشبع ولا تغني من جوع”.
لا تنزعج أيها المثقف السعيد التعس، إني اشطارك الرأي في الكثير مما ذكرت وحكيت عن سيف عنترة بن شداد مثلا، إلا انني أقول عكسك فيما يخص مساحات المثقف، وأنا أعي وأنعي ما أقول يا صديقي، فما زال للمثقف اشياء كثيرة يمكنه اقتناصها من صهيل “سوق عكاظ النيت” التي جمعت متنورين من التيكتوك وانستغرام وبعض الدجالين من بائعي نصائح ووصفات ثقافة العصر.. هم متنورون يتربعون على كراسي منابر ثقافة عصر السرعة، وقد يمتد صهيلهم لساعات، بلا شِقوة ولا لِقوة ولا سهو، ولهم من لذع اللسان ما يحرق وجعا لسان جرير والفرزدق، ويقطع أجنحة خيالهما، ويشفي غليل كل رعاة وقطيع النيت، ولتعلم يا صديقي ،المثقف التعس، انهم يقبضون على اللغة والبلاغة من دون أن يحتاجوا إلى”البيان والتبين” ولا إلى “حوار العصا”، لقد تفوَّقَ هؤلاء عما سواهم من القدماء واتحاد كتاب مغرب وعرب أصبح كتابه وشعرائه يطلبون “السلة بلا عنب” من قلة البديهة وحيلة اللسان. بل حتى إنهم تجاوزوا جاحظنا وعصا الخطيب ، فلا يحتاجون إلى مخصرة للتوكأ أثناء خطبهم، ولا إلى عصا موسى لينفلق البحر والبر، و تتفجر العيون الإثنا عشر. الكل، أيها التعس المنشد، يستجيب لخطبهم، وتموجات ذاكرتهم العمياء وهي تتناثر من فيض زبد منسم بالجهالة، ينسجون منه ميلاد جيل عاري القلب، يصفق للفضيحة، ويقول : هل من مزيد؟ بل وترتعش رموشه، وتتلولب أعينه لمومياوات ودمى في مجالس (كما أشرت) بخصور من السيليكون لا شكل لها، وشفاه مثل البالونات، فلا تحتاج هذه المومياوات في مجالسهن إلى دماثة ومتانة لسان عائشة بنت طلحة (ناقدة عربية في العصر الجاهلي). للخوض بين مشايخ الجهل والجهالة في اخبار التفاهات وفضائحها، ولا إلى حس سكينة بنت الحسين (متخصصة في النقد الشعري والغناء) في النقد ودرايتها في رواية الشعر والغناء،وهي تجالس (المومياوات) اجلة التيكتوك والفيس وامراء غباء بينهم وبين معبد وابن سريج ناطحات السحاب.
لا هن ولا جلساؤهن يحتاجون لبيان الجاحظ ولا حواره عن العصا ليتبين لهم كيف لِغصنٍ جافٍ ان ينقش النسب والمعدن الشريف، ويصنع الفخر، ويخلق الخطيب البارع، والشاعر المُفْلِقْ ولا إلى حكمة مقبضها (أي العصا) للرقص على حبال الكلمات، فكل شيء احتكرته خصور وشفاه دمى ومومياوات مجالس تهش بها لجمع قطيع من دون اي قول أو لفظ، ودون ان تأبى السقوط و الانكسار والتيه في” سوق عكاظ النيت”.
لا حاجة للمومياوات السيليكونية إلى عصا خشب كرمز للوجاهة والسلطة، والسيطرة والهيمنة، وعلى إبلاغ رسائلهن والإقناع بها. بل إلى اجساد سيليكونية، تقلص بها النقاش وتجمد الحركة.
فلا تخش يا صديقي المثقف، لقد اصبحت مثلك تعيسة، والاكثر من هذا انني لم اعد أنشد منذ اصبح البقل غير وسمي، وكل ما تبقى من” حوار العصا” خشب من السدر في الأيدي به نتَظلَّمُ وفيه بلاغة “العصا لمن عصى”.
نعم ‘ايها التعس المثقڤ قد أصبحت حكايتي عيَّةً.. بكِيَّةً منذ اصبح اصحاب المنابر خطباء وفقهاء دجالون بشفاه معجزة سيليكونية، و لسان مشلول البيان..
واعلم أيها المغرد الحزين أني لم أعد أبالي لأغاني الحب منذ أخفى الليل في ظلامه وجه القمر حتى لا يوشوش حكايا العشق و الغزلْ لشفاء “ام كلثوم. سيليكونية” و”حنجرة عبد الحليم صينية”، ومنذ اصبحت الارحام والأحلام بنكهة العقم بسبب قصائد بلاجيا بلاستيكية تنتج برقم “لانفيني= لا متاناهي” تحكي عن عويل العروس في صحافة المفاضحة والفضح ،وتنسج روايات عري تهترا قبل الصبح، لنصبح انا وانت وهو ارباع مثقفين في سوق عكاظ النيت “رْاضِيين بالهم والهم ما راضي وما يرضا بنا” على منابر ثقافة سيليكونية متقنة العرج…