كان في قديم الزمان، كلما تقترب العطلة الصيفية يحملني الشوق إلى طفولتي، والغاز روائح والوان طبخ ونكهة بهارات قيدت ذوقي، ولمة صقلت مغربيتي وعروبتي، فما احلاها تلك الصباحات برائحة المبسس وسط لمة الاحباب (الحرشة عند باقي المدن المغربية)، كان الأمر عاديا وطبيعيا، هي دقائق فقط ليُغمرَ البيت بنكهة الحرشة أو الملاوي.. لتصبح هذه العادة في زياراتي الاخيرة مع -كبر والدتي في السن- أمرا نادرا، تطلبه ولا تدركه، عدا إذا توفرت أو حضرت مساعدة بالبيت. والدتي بدورها سقطت في فخ الاستهلاك السريع ولها عذرها، أما أن يسقط فيه اخواتي ونساء اخريات لا تعملن خارج البيت، فهذا عجب العجاب، لم يستسغه ذوقي ولا اذني: ” سيري جيبنا بعض القطع ديال لمبسس وشي ملويات وكرواصو باش نفطرو بسرعة ونخرجو”
طاولة سخية وفيها من الكرم الحاتمي ما يفوق الخيال والدقائق القليلة لتحضير حرشة بالمنزل بنكهة الأصالة ورائحة الطفولة. المشكل انني حين اتحدث إليهن مستغربة من هذه العادات الدخيلة علينا يحاولن إقناعي بأن السبب توفير الوقت للذهاب إلى الأسواق من اجل الاستهلاك مرة أخرى؛ لا أقول انه أثناء مراهقتنا لم تكن وجبات سريعة، كانت ولكن محدودة ونادرة، قليلة هي المساءات التي نسعى لشراء قطع بعدة دراهم لما نسميه ب”كاران” بمدينتي وجدة، وهي اكلة بالحمص والماء وقليل من الزيت، ولكن ان يصبح العكس صحيحا، فهي الطامة الكبرى.
نظرية جديدة عند المرأة المغربية: الاستهلاك وما ادراك ما الاستهلاك لتوفير الوقت من أجل التفنن في الاستهلاك ثم الاستهلاك، إذ بعد انتهاء فطور الصباح، نتوجه إلى سوق المدينة لاسمع مرة اخرى:” ما عندناش الوقت لتحضير الغذاء.. ناخذو شي حاجة واجدة ونوجدو شي شلاظة معها”، وكأننا نحرر انفسنا كنساء أو رجال من عاداتنا المرسخة والتي تعزز مغربيتنا بحجة توفير الوقت. متناسين أننا أصبحنا عبيدا للعولمة والاستهلاك، وتمزيق مناديل الخبز التي تعودناها مطروحة في الاطباق، فنخنق حنجرة التقاليد ونقطع اصابع كانت لها مهارة في سعادتنا ولم شمل العائلة.
كل هذ جعلني اتفادى قضاء العطل مع عائلة اصبحت تعيش تحت شعار ربح الوقت وتستأنس بالوجبات الخفيفة والرفقة في مطاعم لتناول لحوم ومواد نجهل مصدرهاا
زد على ذلك أين نحن من الروسيكلاج الذي مارسته امهاتنا..؟! روسيكلاج يعتنقه كشريعة الكثير من نساء ورجال أوروبا حاليا في حياتهم اليومية، لم يتبقى لي إلا فلاشات في ذاكرتي ترجع بي إلى “لْحُوف الحْشُو” التي كانت تخيطها امهاتنا وجداتنا بإتقان وذوق غير متصنع بمدينتي وجدة، بدل صالونات باثمنة باهضة لا تستمتع بها جلود من انفقوا فيها ولا نحن في زياراتنا لهم، مجرد ديكورات لمتعة الأعين حتى” تبليها الغبرة”.
فبالله عليكم، هل يوجد اكثر إيكولوجيا وروسيكلاج من هذا.. إنه ذكاء ليس بعده ذكاء، ناهيك عن تمرير الملابس من أسرة لأخرى حين يكبر الاولاد للاقتصاد والحفاظ على البيئة، فما الذي اصابكن إذن يا نساء بلدي،كلما أسندت لكن الأمور أصبحتن إماء الاستهلاك والخمول.
المزعج في الأمر أنني أصبحت انهزم امام ثقافة الاستهلاك وسط نساء عائلتي أو معارفي- إلا من رحم ربي – ، وثنية أصبحت تعيق علا قتي شخصيا وتعاملاتي مع إمرأة مغربية عهدتها أما وجدة واختا كبرى تغمرها الحكمة وحسن التسيير، وكرم حاتمي دون أن تحسك انك مذنب بسبب صلتك للرحم.، هذا النوع من النساء اكثر قسوة على روح المهاجر الذي يطمع في شيء من الدفء بين أحضان أفراد عائلته
فامسيت انظر إلى نفسي أنني البدوية المغربية كمهاجرة والاكثر حرصا على التقاليد والاحتياط من خديعة العولمة والاستهلاك المفرط..
ملت نفسي من مجاللس بلسان الاستهلاك والمغالاة في التباهي، و الخلو من حوارات زكي الرائحة وطيبة المعاني.
لقد حان الوقت لنفرق بين الصالح والطالح، وحل عُقَد الماركات المركزة بالكتابات العريضة على الملابس والاحذية والحقائب، فليس هذا منا ولا في جيناتنا، ولن يغير شيئا من جلودنا وهويتنا، فالجاهل هو من لا يعرف نفسه.
فلِنُبْقِي بصنيع امهاتنا وجداتنا كإرث لنا ايتها النساء، وبعصي ابائنا يا معشر رجال المغرب (بمعنى الحكمة والخطابة، ولي عودة إلى هذا الموضوع) ولا نرمي بأنفسنا للتهلكة بسهام ونبال عولمة هتكت ارواحنا و غيبت نبل طبيعتنا الإنسانية وهويتنا المغربية.