
بقلم: سعيد بوعيطة

لا يوجد في بلاد الله الواسعة، وبقية بلاد العرب المترامية الأطراف، والتي انسب نفسي إليها، لأن بلاد العرب أوطاني كما يقول الشاعر فخري البارودي، شيئا أكثر تواجدا من الحمير. فلا يزال هذا الحيوان الصبور الوديع، يشاهد في مدننا العتيدة، مهما كان مبلغ رقيّ هذه المدن وإدعائها الإنتماء الى المدن الذكية. هذا الحيوان الذي طالما احتمل عنف الإنسان وقساوته، لايشكو ولا يتذمر. لكن على الرغم من هذه المزايا ومزاياه الأخرى التي لا تعد ولا تحصى، فإنه لم يحظ بنفس الاهتمام الذي حظيت به بقرة الهندوس التي تصول وتجول في شوارع مدن وحارات بلدان أخرى.
ومهما يكن الأمر، فإن للحمار حضور واسع على صعيد الحياة العامة والخاصة إلى اليوم. كما كان له نفس الحضور أيضا على صعيد التاريخ (حمار جحا الغني عن التعريف). بل ورد اسمه في بعض الكتب المقدسة وبالذات في القران الكريم (حمار لقمان)، وفي الأعمال الأدبية (حمار توفيق الحكيم).
أما في مجال السياسة، فحدث ولا حرج. فقد اتخذته بعض التوجهات والأحزاب رمزا لها. لتؤكد لأنصارها أنها تمتلك كل خصال وصفات الحمير، وأن لها من الثبات والصبر الكثير. وإذا كان أبرز حزب سياسي على المستوى العالمي قد اتخذ من الحمار شعارا له (الحزب الديمقراطي الأمريكي)، في مقابل الفيل الذي يشكل رمز الحزب الآخر (الحزب الجمهوري)، فإن رموز أحزابنا التي لا تعد ولا تحصى، قد تجاوزت الحمار والفيل، لتصبح رمزا لحديقة الحيوان.
لكن على الرغم من هذا التعدد السطحي، تحتل الرموز/ المزايا التي تنسب للحمير الصدارة بلا منازع. غير أن هناك خصلة سيئة مؤكدة في هذا الحيوان اللطيف، لا يستطيع أحد منا الدفاع عنها. تتجلى في نهيقه الذي حاز بسببه لقب أنكر الأصوات عن جدارة واستحقاق (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)(سورة لقمان/ الآية: 19).
نحن والحمير وما بيننا من انفصال
ثمة حضور آخر للحمار في حياتنا اليوم. حيث يستخدم مقياسا تقييميا لكثير من الناس. سواء على مستوى العقول أو على مستوى الأخلاق والسلوك اليومي. فلو أردنا أن نذم بعض الأصوات الآدمية، يستحضر وصفنا الحمار لنشبه أصوات هؤلاء الآدميين بصوته. لما يمتاز به هذا الصوت من نشاز وقبح. على الرغم من أن هذا الحيوان لايطلق صوته باستمرار كبقية الحيوانات الأخرى (القطط والكلاب والطيور …الخ)، أو كسائقي السيارات عند استخدامهم المنبه في شوارع مدننا ليل نهار. لأن الحمار لا يظهر هذا الصوت المنكر والقبيح، إلا في حالة واحدة تقريبا. تبرز عندما تلتقي الحمير فيما بينها أو عندما يشم بعضها ريح بعض ولو عن بعد. وهي قدرة عجيبة على ترحيب الحمير ببعضها البعض بأشكال مختلفة من شم ولحس وعض هي أشبه بالقبلات وإلقاء التحية.
نحن والحمير وما بيننا من اتصال
يشترك بنو البشر والحمير في مشتركات عديدة. أبرزها ما أشار إليه المناطقة بدء بأرسـطو وصولا إلى من تلاه من الفلاسفة. حيث ربطوا بين الإنسان وبين الحمير باعتبارهما الجنس الأعلى في الكون. إلا أن الانسان باعتباره حيوانا، أصبح ناطقا. فمكنته صفة النطق من الدخول في نوع آخر، هو نوع الإنسان. فتجاوز بذلك مسمى حيوان. في حين بقي أخوه الحمار في نفس جنسه. لأن صفة إنسان لا تنطبق عليه.، لكونه غير ناطق. لهذا، لا غرابة إن وجدنا مشتركات سلوكية بين بني البشر وبين الحمير عن وعي أو بدونه. فكم مرة يعترف الواحد منا بحماريته، خاصة حين تدفعه غفلته أو بلادته للوقوع في فخ ما أو فيما استغفله الآخرون. فتراه سرعان ما يعترف قائلا مع نفسه أو مخاطبا غيره ”أنا حمار”. بينما نجد آخرين يفتخرون بهذه الحمارية من خلال وصف أنفسهم بأنهم من أصحاب الجلد والتحمل، وأن أحدهم في صبره وتحمله كالحمار بل أشد تحمرا من الحمار نفسه.
لكننا أحيانا نظلم هذا الحمار حين نتهمه بالغباوة والحمق والبلادة من خلال تشبيهنا لأشخاص بالحمير. في حين أنهم في الواقع الحال، أكثر غباء وحمقا وبلادة من الحمار نفسه. بل إننا نلحق بالحمار إساءة بالغة من خلال تشبيه هولاء الأشخاص به أو نعتهم بأنهم إخوة للحمير. إنها أخوة لو ترك للحمار الخيار فيها، لما قبل بها أصلا. لأن هؤلاء لا يشتركون معه إلا في النهيق وفي أنكر الأصوات التي تميزهم. خاصة ونحن نعيش اليوم أزمة ما يسمى (تجاوزا) النخب السياسية وما ولدته من إشكالات في عالمنا، وما خلقته من تشنجات وتوترات وأزمات. وصلت أحيانا إلى حد انهيارات نفسيه وعصبية لدى العديد منهم. لكنهم على الرغم من ذلك، يستمرون في اتخاذ الحمير أسوة حسنة لهم. لما تمتاز به من صبر وطول نفس في التهافت على الكراسي والمناصب وما ارتبط بهما. فيختارون من صفات هذا الحيوان الودود نهيقه.
وحين ينهق هذا الزعيم السياسي أو ذاك في مؤتمر أقامه هنا وهناك، أو في ندوة صحفية مفبركة، تردد نهيقه الجحاش والجحشة المتراصين في الفضاء الأزرق أو في مختلف المواقع. ليمتد هذا النهيق إلى المهرجانات والسهرات اللافنية بمختلف أشكالها، و إلى القنوات، وإلى القبة المقدسة وهلم جرا. حتى أصبحا لا نميز بين الخيل الأصيلة والحمير إلا من خلال هذا النهيق على حد تعبير الشاعر فاضل أصفر: لأن الخيل قد قلت… تحلت حمير الحي بالسرج الأنيق إذا ظهر الحمار بزي خيل تكشف أمره عند النهيق
لهذا، نجد أنفسنا اليوم، تقودنا الحمير مكرهين. حتى أصبحنا نحن والحمير في المنعطف الخطير على حد تعبير الكاتب اليمني محمد مصطفى العمراني.





