في الصميممجتمع

سياسة اللغة ولغة السياسة

سعيد بوعيطة (باحث مغربي)

بقلم: سعيد بوعيطة

كانت اللّغة (وما تزال) تلك الأداة الأساسية من أدوات الممارسة السياسية. إذ لم تكن سلطتها، تقلّ عن سلطة المال أو سلطة القبيلة (العشيرة) والولاءات. إلا أن وزن اللغة في استواء أمر السياسة، قد تطور بتطور آليات العملية التواصلية والمقصدية بين بني البشر. حيث أصبحت هذه العملية أكثر تطورا مقارنة مع الماضي. تحولت المعلومة على إثرها، إلى ملك مشاع بين السياسي والمواطن العادي. مما يؤكد أن التطور الذي آل إلى انتصاب اللغة باعتبارها سلطة داخل سلطة السياسة، قد مر بمحطات كبرى. تجلت في مختلف المنعرجات التي أوصلت المعلومة إلى الملك المشاع. حيث تجلت المحطة الأولى في مرحلة نشأة الصحافة، فيما ظهرت الثانية مع البث الإذاعي، أما الثالثة، فظهرت مع البث التلفزي، في حين برزت الرابعة، مع ما استحدتثه شبكة الإنترنت وما صاحبها من تطور تقني. بهذه المراحل التطورية، استوى سلطان اللغة، ومنذئذ سيكون من الجهل أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة.

اللغة وصناعة الفعل السياسي

حين نتأمل عنصر اللغة في صناعة الفعل السياسي، نتساءل عن أيهما أشد إغراء وأكثر إمتاعاً. هل نبحث في السياسة من خلال اللغة، أم نبحث في اللغة من خلال السياسة؟ وأيهما أشد وقعا في النفس، وأجدر على إستجلاء الحقائق التي تمكن من اكتشاف الحيثيات التي تصنع سلطة السياسة والسياسي؟ أم هل نعيد اكتشاف اللغة كي نقرّ لها بالسلطة التي احتجبت؟ لتجاوز هذه الأحكام الجاهزة عن السياسة وعن اللغة، ومن أجل الوصول إلى المبتغى، يستوجب العمل على إعادة ترتيب إدراكنا للأشياء المكونة لعوالمنا. لأن كل بحث في علاقة السياسة بسلطة اللغة، يستوجب بناء وعي إدراكي جديد. يمكننا من إقامة فصل جلي بين فهم أسرار العلاقة القائمة بين السياسي ومقصديته من الكلام المرسل، وفهم مختلف حيثيّات الفعل السياسي قبل تزكيته أو إدانته. خاصة إذا أدركنا أنه ليس مألوفًا لدينا البحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة. لكوننا لم نتشبع بعد باستراتيجيات الخطاب عامة، وقوانين استراتيجيّات الخطاب السياسي على وجه الخصوص.

بين اللغة الطبيعية ولغة السياسة

قد يدفع الحدث السياسي إلى الوقوف عند مستوى اللغة. كما قد نستشهد من جهة أخرى، ونحن نبحث في اللغة بقولة معينة، جاءت على لسان أحد السياسيين مهما كان موقعه. لكننا على الرغم من ذلك، لم نعهد بعد اتخاذ التقاطع بين الظاهرتين مجالاً للبحث والاستكشاف. فإذا كانت اللغة في الوجود أداة مطلقة، فهي في السياسة قيمة مقيدة، وفي الإعلام وظيفة متحكمة. لهذا، جرت العادة أن يهتم المواطن بالحدث السياسي، دون أن ينتبه مليّاً للصياغة اللغوية التي تبنى بها تفاصيل الحدث. وذلك لاعتقاده بالتطابق بين الحدث السياسي والخبر السياسي (المبني بواسطة اللغة). لكون المواطن يُنزل الأول منزلة المدلول، والثاني منزلة الدال بمفهوم اللسانيات الحديثة (حسب اللساني فردينان دو سوسير)، ولم يعمل على التمييز بينهما (بين الدال والمدلول). كأن رسالة الإبلاغ واحدة لديه، لا تصدر إلا عن أداء واحد. أو كأنما الخبر هو الخبر مهما تنوعت صيغه و تلونت تجلياته. كأن الإخبار عن حدث سياسي معين، فعل في مطلق الحياد. لا يتضمن مقاصد صانعه (رجل السياسة). لأنه إذا كانت اللغة سلطة في ذاتها، والسياسة هي السلطة بذاتها ولذاتها، فإن اللّغة يحقق بها الإنسان الفعل (المقصدية) على الآخر. لهذا، كثيراً ما لا يكون المواطن واعيًا بسلطتها وبخطورتها. أما في مجال السياسة، فالسياسي لا يتصور نفسه إلا وهو يفعل الأفعال بالإنسان على الإنسان. فيما يوظف البعض الآخر اللّغة وهو على وعي تام بقوتها (كما هو الشأن في الخطابة). لكونها تشد أزر سلطته. في حين لا يعي البعض الآخر، أن وزن سلطانه (سياسته)، تحدده سلطة لغته. لهذا، ففي المسافة القائمة ما بين هؤلاء وأولئك، قد تزدهر الحياة السياسية أو يخبو وهجها. وبما أن السياسة هي السلطة الغائبة، فإن الذين يصوغون أحلام الناس، يرون أن العالم كان يمكن أن يكون أسعد لو أن السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها، وأن اللغة قلصت من غيابها

عن المواطن المحكوم بالسياسة

لكن مهما يكن الأمر، فإننا نجد من يتساءل (في هذا الإطار) وهو ينخرط في ميثاق قراءة هم المواطن بخصوص أيهما أكثر اقترافاً للإثم. هل هو ذلك السياسي الذي يزهد في اللغة أم ذلك اللغوي الذي يستهجن السياسة؟ وفي كلتا الحالتين، قد يمتد السؤال بصاحبه بعيدًا، ليتحول من سؤال العلاقة الممكنة، إلى سؤال الأحقية في كشف الحقائق. لنصبح أما السؤال التالي: هل يتعلق الأمر بلغوي يحترف تسويغ السياسة، أم بسياسي يتجنى على اللغة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci