بقلم: زكية لعروسي

حين نتحدث عن العنف والسلطة، فإننا ندخل في أحد أكثر الأسئلة تعقيدا في الفلسفة السياسية. فهل العنف حق مشروع للسلطة، أم أنه مجرد وسيلة للحفاظ على النظام؟ وإذا كانت الدولة تحتكر العنف، فما حدود هذا الاحتكار؟ وهل يمكن تبرير العنف ضد رموز السلطة في حالات معينة؟ هذه الأسئلة تفتح لنا أفقا فلسفيا عميقا لفهم العلاقة بين القوة والحق، بين القانون والأخلاق، وبين الاستقرار والحرية.
إذا كان العنف جزءا من سلطة الدولة، فهل هو ضرورة لا غنى عنها أم أنه مؤشر على فشل الدولة في إدارة شؤونها بطرق سلمية؟ أفلاطون يرى في الجمهورية أن الدولة المثالية يجب أن تحكم بالحكمة والعقل، وليس بالقوة والعنف. فالسلطة عنده لا تحتاج إلى العنف إلا عند الضرورة القصوى، أي عندما يكون هناك خروج عن القانون. لكنه في الوقت نفسه لم يستبعد وجود نوع من “العنف التربوي”، إذ اقترح فرض بعض القوانين الصارمة التي قد تتطلب القوة لفرض النظام. أما أرسطو، فكان أكثر واقعية، إذ اعتبر أن العنف قد يكون وسيلة ضرورية للحفاظ على الاستقرار، لكنه يجب أن يكون مقيدا بالقوانين والأخلاق، حيث أكد أن الحاكم العادل هو من يحقق التوازن بين القوة والقانون.
في المقابل، نجد أن الفلاسفة السفسطائيين مثل كاليكليس وثيرسيماخوس كانوا أكثر براغماتية، حيث رأوا أن القوة والعنف هما الوسيلتان الأساسيتان للحفاظ على السلطة، وأن “الحق هو ما يقرره الأقوى”. هذه الرؤية تعكس واقع السياسة في دول المدن اليونانية حيث كان العنف أداة يستخدمها الطغاة للحفاظ على نفوذهم. فهل يمكن لدولة حديثة أن تحكم دون اللجوء إلى العنف؟ أم أن العنف هو أداة حتمية لضبط الفوضى؟
وفقا لماكس فيبر، الدولة هي الجهة الوحيدة التي تملك “احتكار العنف المشروع”، ولكن كيف نحدد ما هو “مشروع” وما هو “غير مشروع”؟ هل القانون وحده كاف لجعل العنف شرعيا؟ وماذا لو كان القانون نفسه ظالما؟ هل هناك فرق بين العنف القانوني والعنف الأخلاقي؟
في الفكر العربي، نجد تصورًا أكثر تركيبًا للعلاقة بين السلطة والعنف. الفارابي، في آراء أهل المدينة الفاضلة، يرى أن الدولة الفاضلة لا تحتاج إلى العنف، لأن الحاكم فيها فيلسوف يسعى لنشر الفضيلة بالحكمة والتعليم. لكنه في الوقت نفسه يعترف بأن الدولة قد تحتاج إلى القوة لفرض النظام إذا واجهت الفوضى. ابن خلدون، من جهته، يرى أن العنف ضروري في مرحلة تأسيس الدولة لكنه يتحول إلى سبب سقوطها إذا استُخدم بشكل مفرط، حيث يربط انهيار الدول بالاستبداد والقهر المفرط للرعية.
أما الماوردي في الأحكام السلطانية، فيبرر استخدام العنف من قبل السلطة للحفاظ على النظام، لكنه يشدد على ضرورة أن يكون العنف مقيدًا بالقانون والشرع. في حين أن ابن رشد، الذي تأثر بالفكر الأرسطي، كان أكثر عقلانية في تعامله مع السلطة، حيث رأى أن القوانين وحدها يجب أن تكون المرجع في تنظيم العنف، لا أهواء الحكام.
إذا كانت السلطة تمارس العنف للحفاظ على النظام، فهل يحق للأفراد أن يمارسوا العنف لمقاومة الاستبداد؟
ابن خلدون تحدث عن أن العنف الزائد من قبل الدولة يؤدي إلى سقوطها، فهل يمكننا اعتبار العنف الشعبي نوعا من “التصحيح الذاتي” للمجتمع؟ وهل هناك حدود لهذا العنف، أم أن كل عنف ضد السلطة مرفوض بالمطلق؟
إذا كان العنف منتشرا في الشوارع والمدارس والأسواق، فهل هذا يعكس طبيعة الإنسان العنيفة كما قال هوبز، أم أنه نتيجة لخلل في النظام التعليمي والتربوي كما أشار الفارابي وابن رشد؟ كيف يمكننا التمييز بين العنف كغريزة طبيعية والعنف كسلوك مكتسب نتيجة لضعف الدولة أو فشلها؟
هيجل يرى أن الدولة هي “عقل المجتمع”، ولكن هل يجب أن يكون هذا العقل مسيطرا بالقوة أم مقنعا بالحكمة؟ هل يمكن لدولة قوية أن تكون بلا عنف؟ وما الفرق بين السلطة التي تستخدم “القوة المنظمة” والسلطة التي تنزلق إلى “العنف المفرط”؟
إذا كانت السلطة مسؤولة عن ضبط العنف، فهل الحل يكمن في الردع القانوني فقط، أم أن هناك حاجة إلى إصلاح تربوي وأخلاقي؟ لماذا تتحول المدارس إلى أماكن ينتشر فيها العنف بدلا من أن تكون أدوات لمكافحته؟ وهل يمكن اعتبار انهيار التعليم والقيم سببا أساسيا في انتشار العنف المجتمعي؟
إذا كان العنف يمثل عودة إلى “حالة الطبيعة” كما يرى هوبز، فهل يمكننا تحقيق التمدن دون الحاجة إلى سلطة قمعية؟ روسو تحدث عن “العقد الاجتماعي” الذي يوازن بين الحرية والقوة، فهل يمكننا اليوم إعادة تعريف هذا العقد بحيث يحفظ النظام دون أن يؤدي إلى القمع؟
إذا كانت الدولة تحتكر العنف، فهل يمكن تحميلها مسؤولية كل أشكال العنف في المجتمع؟ عندما يمارس الأفراد العنف ضد بعضهم البعض، هل هذا يعكس فشل الدولة في أداء دورها؟ وهل يمكن اعتبار العنف المنتشر في المجتمع نوعا من “العنف غير المباشر” الذي تمارسه الدولة بسبب تقصيرها في التربية والعدالة الاجتماعية؟
في كثير من اللحظات التاريخية، كان العنف ضد السلطة هو المحرك الأساسي للتغيير السياسي والاجتماعي، كما في الثورات الكبرى. لكن كيف نفرق بين العنف المبرر لتحقيق العدالة والعنف الذي يؤدي إلى مزيد من الفوضى؟ هل كل عنف ضد السلطة هو حالة من “السيبة”، أم أن هناك عنفا مشروعا يمكن أن يكون وسيلة لإصلاح السلطة نفسها؟
إذا كان العنف ضروريا في بعض الأحيان للحفاظ على النظام، فكيف يمكن للدولة أن تمارس هذا العنف دون أن تتحول إلى نظام استبدادي؟ كيف نضمن أن القانون هو الذي يحكم العنف وليس أهواء الحكام؟ وما الآليات التي تمنع الدولة من تجاوز حدودها في استخدام العنف؟
الإشكالية الكبرى في موضوع السلطة والعنف ليست في وجود العنف أو غيابه، بل في كيفية تنظيمه وضبطه بحيث لا يتحول إلى فوضى ولا إلى استبداد. الحل قد يكمن في بناء دولة قائمة على العدل والقانون والتربية، لا على الخوف والقمع.كلما زاد العنف، كان ذلك دليلا على خلل في النظام السياسي والتربوي والاجتماعي. الفلاسفة القدماء قدموا لنا دروسا في كيفية ضبط العنف وجعله أداة لضمان العدالة، لا وسيلة للقمع. لذا، فإن الحل لا يكمن فقط في منع العنف، بل في فهم أسبابه العميقة والعمل على إرساء دولة القانون التي تستند إلى العدل والعقل، لا إلى العنف المجرد.
فهل يمكننا الوصول إلى هذا النموذج المثالي؟ أم أن العنف سيظل دائما جزءا من السلطة والمجتمع، لا يمكن تجاوزه بل فقط التحكم فيه؟