بقلم: محمد طواع*

نعرف في الفلسفة السياسية، أن الدولة وحدها، هي من لها الحق في ممارسة العنف وفق ما ينص عليه القانون. وأن أي إنسان في المجتمع، لا يحق له ممارسة العنف ضد دولة الحق والقانون. ولكن لما يتعرض رمز، من رموز سلطة الدولة للعنف، كيف ينبغي أن نفكر في هذه “النقطة”؟ أقول: يتعين أن نقف على المنبع، الذي تنفجر منه مثل هذا السلوك، الذي يسائل كل من يهمه الأمر: إلى أين يسير المجتمع، وفيه ذلك الانسان الحمال لمثل هذه العوائد السلوكية؟ تلك التي تتكلم لغة العنف البدائي الذي يذكرنا في الفرضية التالية: إن “حالة الطبيعة” ليست مرحلة عاشها الانسان، وقد ولت وذهبت، إلى عمق الناريخ، وإنما هي حالة سيكولوجية نحملها معنا، مادامت هناك “طبقة العقل البهيمية”، تشكل تضاريس جيولوجيا العقل البشري. وهو ما جاءت من أجله الحكمة و مختلف الشرائع ونظريات الأخلاق، من أجل “عقله”.
مثل هذا السلوك الذي يتعدى على رمز الدولة، هو في العمق، اعتداء على القانون الضامن للحق الذي يعتبر أساس باقي الحقوق، وهو الحق في ممارسة طقوس الحياة، بكامل الحرية والمسؤولية. أو هو ما يضمن لكل مواطن، الحق في الحياة أساسا. ولكي نكبر الصورة أكثر، لهذه الآفة التي تمثل عائقا للتمدن والتحضر، نشير إلى ما يلي:
ظهور أشكال سلوك العنف، لا تخطئها العين في أماكن وفضاءات متعددة عندنا: في الشارع العام، سواء كنا راجلين أو سائقي سيارة، نتابع بألم واستغراب شديدين، العنف بأنواعه الرمزي واللفظي والمادي حتى. كما نتابعه كذلك في الملاعب الرياضية والأسواق، خاصة في هذا الشهر الفضيل. كما تعيشه بعض المساجد، وجل المدارس سواء في فضاءاتها الداخلية أو أمام أبوابها. سلوك عنيف في مختلف الأوجه، لفظي ورمزي كالكتابات على جذران المدرسة، وكأنها ترسم “جذاريات” لنشر القبح للعيان.
نلاحظ كذلك عنف من صنف آخر، عنف يتحدى القانون، ومن أوكلت إليه حماية الحق والقانون، وهو ذاك الذي يترجمه قرار صاحب متجر أو صاحب مقهى، للسطو على الملك العمومي بدون ترخيص، ضاربا بعرض الحائط، حق المواطن في السير على الرصيف بكل أمان. أو مثل بعض السكان الذين يضعون حواجز مانعة لتوقف سيارتك، في إحدى الأزقة أو بالشارع، لقضاء بعض المآرب. ناهيك عن زحف الترييف على المدن بدون استثناء، وتترجمه تلك المظاهر التي تؤثتها العربات المجرورة بالحيوانات، وكذلك القوم الذي يعرض سلعته للبيع فوق الرصيف، وعلى جنبات الشوارع. هل الدولة لا عيون لها لرصد مختلف أشكال العنف هاته، فيما هذا القبح ينتشر بوثيرة ملحوظة، وكأن هذه الصورة أمست “طبيعة ثانية” للمدينة.
السؤال من زاوية أخرى: مظاهر العنف التي لا تحصى كثرة، يعيشها المحيط الذي يقيم فيه الانسان، كيف ينبغي فهمها وتفسيرها؟ نفهم ذلك بشكل فلسفي لنقول: هذه الصورة المكبرة لمظاهر العنف، هي في الجوهر ما يترجم “زحف حالة الطبيعة” على “حالة التمدن والعمران”، وهي الحقيقة التي تضع سلطة الدولة، وقيمة المجتمع، على المحك، بحيث من هنا نفهم لماذا كان ذلك السلوك العنيف ضد أحد رموز السلطة. لأن تمادي “حالة السيبة”، من تمادي مثل ذلك السلوك.
أما على مستوى التفسير، فنفترض أن الأمر يسائل، ليس قيمة القانون عندنا، بقدر ما يسائل كذلك، تلك الغربة التي أمست المدرسة وباقي مؤسسات التربية و التنشئة الاجتماعية، تعيشها في علاقة بالمجتمع. فماذا ننتظر على مستوى التربية والتنشئة، والمدرسة بمنظومتها، غريبة عن المجتمع؟ ماذا ننتظر ونحن اختزلنا المدرسة إلى مؤسسة “امتحانية”، مؤسسة شغلها الشاغل هو إتمام المقرر وتهييئ المراقبة ونقطها، والامتحانات الاشهادية، ومد النتائج، بدون تقويم جدي، للحصيلة على مستوى التربية على القيم والمهارات الحياتية؟
نتساءل هنا، ما الوضع الاعتباري الذي توليه المنظومة التربوية، لمواد التفتح والفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح، والتربية البدنية التي اختزلت إلى رياضة؟ نقول بالجملة إن شعار “الحياة المدرسية” توقف عند أبواب المدارس. الكل غريب داخل فضاء المدرسة. الكل يتمثل نفسه مجرد “موظف”، أو بلغة اليوم “متعاقد”، من أجل مهمة مؤقتة، وليس بوصفه فاعلا تربويا، ذي رسالة نبيلة، وهي تلك التي وردت في المأثور: وكاد أن يكون المدرس رسولا”. والرسول من الرسالة، وهي التربية والتنشئة أساسا، قبل التدريس. ذلك أنه لا تدريس فعال بدون تربية.
إن منزلة سؤال علوم التربية يسائلنا، لما يتعلق الأمر بالسلوك والمعاملات، وفق سلم القيم وطقوس “الأدب”. هذه الغربة العامة، وغياب الوضع الاعتباري اللازم، لمواد التفتح و التربية على القيم والفن، هو ما يفسر لماذا يتطاول الفرد على القانون، ولسانه كما سلوكه، غير “معقول”. ونعرف على أنه لما يتم تنويم العقل، يستيقظ السلوك الذي ينفجر عن منبع الانفعال، الذي ينزل السلوك البشري إلى مصاف “البهيمة”، أو يدفعه للتصرف خارج “العقال”.
سلوك الانفعال المولد للعنف، قاربته فلسفة الأخلاق باعتباره نابعا عن قوة “البهيمية” القابعة في الكيان البشري. وهي القوة التي إذا لم يتم “عقلها”، على أساس غرس ورعاية الوازع الأخلاقي- القيمي، ليمسي “طبيعة ثانية” لدى الانسان، أولا وأساسا، والحزم القانوني ثانيا، سيتوالد العنف والفوضى في المجتمع، إلى درجة أنه يخيل للنبيه، أن “حالة الطبيعة” اكتسحت “حالة التحضر والمجتمع”. ومن مظاهر ذلك، ما أشرنا إلى بعضه، وكل ما من شأنه أن يساهم في تلاشي معنى القانون وقيمته، من أجل حياة للعيش المشترك.
نتعلم مع مفكري الأنوار والفيلسوف هيجل، أن “الدولة هي عقل المجتمع”. وينبغي أن نأخذ إسم عقل هنا، بمعنييه: اللغوي حيث هو مأخوذ من مادة (ع-ق-ل)، ومنه فعل عقل بمعنى قيد وربط مثلما نقيد الدابة، أو في المعنى الاصطلاحي، الذي يفيد مختلف الملكات والعمليات الذهنية، الأعدل قسمة بين الناس، والتي تمكنهم من التمييز في سريرتهم وبوعي، بين الصواب والخطأ في المعرفة، ويميزون بين الحق والباطل في السلوك. وبما أن الانسان ذكي، فقد يوظف هذه الذكاءات، في الخير كما في الشر، من البحث عن الحقيقة، إلى ممارسة النصب والسرقة والاحتيال.
وبما أن العنف ينتج عن قرار “مد اليد” على ما ليس للفرد الحق فيه، ابتكر العقل البشري مؤسسة الدولة والترسانة القانونية ومنظومة الثقافة والفنون وسلم القيم، من أجل “عقل” الفرد و المجتمع، لعيش الكل في أمن وأمان وعيش مشترك. لذا كان ابتكار السياسة والسياسي، ومنظومة الدولة ونظام الحكم وتفويضهما الحق في ممارسة السلطة بالحزم والقوة، لإحلال ” العقل والمعقول على أرض الواقع”.
ومن أجل ذلك، وعبر التاريخ، ليس هناك مجتمع بدون دولة، كما ليس هنا دولة ومجتمع بدون مدرسة. لان هذه الأخيرة هي المشتل الذي يستنبت فيه المجتمع برعاية الدولة، ثقافة القيم و مرجعية القانون، لدى الانسان-المواطن بالفعل، الانسان المتمكن من مختلف القيم والمهارات الحياتية، التي من شأنها تأهيل وتنمية الشخصية القاعدية وتنميتها لدى كل فرد، لكي يتصرف كمواطن يتصرف “بتبصر”، وبسلوك “معقول” بالقيم والقانون.
هذا المنظور الأنواري، هو ما يدفعنا إلى السؤال عن أدوار المدرسة عندنا، وعن الوضع الاعتباري “لدرس القيم وثقافة القانون”، في منظومتنا التربوية، وعن الفعالية والنجاعة في تدريس ذلك. لأن من شأن هذا الدرس أن يغرس الحس بالانتماء للوطن وحب مؤسساته الموكول إليها قيادة شأن التربية والتنشئة وتكوين الانسان المعول عليه، في إنتاج الثروة العلمية والاقتصادية والثقافية والعمل بالقانون، والحامل لها مدى الحياة، درء لكل أشكال العنف في المجتمع.
* ذ. باحث وكاتب في مجال الفلسفة المعاصرة