صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع «العربي الجديد» بعنوان «مدوّنة الأسرة المغربية… إصلاح في حقل ألغام». و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.
بقلم: عبد الحميد جماهري
تجاوزت التعديلات المقترح إدخالها في مدوّنة الأسرة في المغرب الأفق المنتظر من حيث الكمّ الذي بلغ 139 تعديلاً، ورأت اللجنة التي شكلها الملك محمد السادس لهذا ضرورة إدراجها قوانينَ منظّمةً تغني المدوّنة، بعد 20 سنة من التعديل الجذري المتوافق عليه في 2004. في خضمّ النقاش المتعدّد الأطراف (والساخن) الذي يستقطب اهتمام المغاربة حالياً، يمكن أن نحدّد خمس زوايا يتفاعل فيه الشكل والجوهر، للنظر في نصّ قانون بلبوس فقهية، من المتوقّع أن يثير نقاشاً طويلاً في المقبل من الأيّام.
كان محمد السادس قد عقد في 23 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري جلسة عملٍ خُصِّصَت لموضوع مُراجعة مدوّنة الأسرة. وجاء ذلك في أعقاب انتهاء مهامّ اللجنة داخل الأجل المُحدّد لها، ورفْعها تقريراً يتضمّن المقترحات (المشار إليها أعلاه) إلى العاهل المغربي. وإذا كان نصّ المدونة (في نهاية المطاف) قانونياً، فإنها المرّة الأولى التي يعقد فيها ملك المغرب جلسة عمل حول قانون، إذ كانت جلسات العمل في التقدير الملكي المغربي تُخصّص للقضايا الموضوعاتية مثل قضايا الماء أو الطاقة أو الدولة الاجتماعية أو الكوارث، مثل زلزال الحوز. وهو ما يؤشّر إلى الأهمية التي تكتسيها التعديلات الجارية.
ومن أمورٍ استرعت الانتباه العام أن اللجنة عملت تحت إشراف رئيس الحكومة، وهو مُستجِدّ في قضية تتقاطع فيها النصوص الدينية بمتغيّرات الواقع، والخلفية الثقافية بالانتماء الطبقي، والسوسيولوجيا بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً. وقد جرت العادة (منذ أيام الملك الراحل الحسن الثاني) أن تسند رئاسة اللجنة المتخصّصة في هذا النوع إلى شخصياتٍ من خارج حقل المسؤوليات الدستورية. وقد رأى كثيرون في هذا الاختيار ما هو أكبر من تفصيل سياسي تدبيري، بما يعني ذلك من إحالة على الفهم الجديد لعلاقة المسؤولية الدستورية، كما جرى التوافق عليه في دستور 2011 مع حقل المدوّنة، الذي ينتمي عادة إلى التمحيص الديني، وهو فهم ينبني على دسترة المسار التشريعي في الموضوع، مثله مثل أيّ قانون آخر، تكون الحكومة وراء إطلاقه.
وفي الشكل دوماً، أعطى الملك محمد السادس تحكيمه في القضايا التي اقترحت فيها الهيئة أكثر من رأي، بعد أن تحقّق نظر المجلس العلمي الأعلى، المؤسّسة الدينية العُليا في المغرب. وفي الشكل، ما زال الجهد التشريعي والقانوني في الفهم والصياغة، وتحقيق القصد من هاته الإصلاحات، متوقّفاً على النخبة الحكومية والبرلمانية، وهي المطلوب منها اليوم أن تجوّد هاته النصوص، وتوجد الصياغة القانونية التي لا تقبل التأويل لفائدة النكوص، والامتثال للعراقيل الذهنية والاجتماعية المؤثّرة، كما وقع في تعديلات 2004، التي كانت محطّ انتقاد الملك، وأحد أسباب العودة من جديد إلى تدقيق الإصلاح.
يبدو كما لو أن المغرب قد اختار المبدأ الفقهي الذي يفيد بما معناه “القسمة بالتراضي وإن لم تُرضِ الطرفَين”، إذ يبدو أن بعض التيّارات المحافظة، وبعض التيّارات الحداثية، لم تجد في الإصلاح ما يرضيها، ولكن ليس فيه ما يدفع إلى الرفض والتعبئة المطلقَين، ويفتح الباب لمزيد من التدافع والحراك الإصلاحي مستقبلاً.
أمّا ما يخص التطلعات النسوانية، التي يدافع عنها الذكور والإناث على حدّ سواء، فقد حالت التعديلات دون البلوغ إلى العدالة المطلوبة، فرفض بعض المقترحات التي تحصّلت حولها تعبئة “حداثية”، عُدّ عجزاً في الإصلاح، بل هناك من عدّ أنه لم يحصل شيء، بعد رفض المجلس العلمي الأعلى ثلاثة تعديلات على مدونة الأسرة رُفِعت للنظر الشرعي ضمن 17 مسألة أحالها عليه الملك، وفق ما أعلن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق. ويتعلّق الأمر بـ”استعمال الخبرة الجينية للحوق النسب”، و”إلغاء العمل بقاعدة التعصيب”، و”التوارث بين المسلم وغير المسلم”. في حين اعتبرت التيّارات الدينية أو المحافظة أن إخراج السكن من تركة الميت لفائدة الأحياء من الأسرة أو ضمان الحضانة للزوجة المطلّقة، ولو تزوّجت من جديد، بمثابة تجاوز للقطعيات الشرعية.
وبالرغم من أن النصوص الدقيقة، والمصوغة بوضوح لا عتمة فيه، لم توجد بعد، فإن النقاشات اشتعلت بشأن هاته المواضيع، حتى إن التفاعل الذي حصل معها، من بعض أطراف المجتمع، يجعلنا ندرك أنها كانت ما دون أفق انتظار أصحابها، أو أنها تجاوزت “المحرّم” بتبنّي أكثر ممّا هو منتظر. ولحدّ الساعة، لم تعبّر التنظيمات المنتسبة إلى الإسلام السياسي، العاملة في الحقل الدعوي، ولا التيّارات الحداثية، عن رفض بيِّنٍ. ولعلّ الدعوات التهويلية جاءت من بعض الأفراد أمثال رئيس حركة التوحيد والاصلاح المغربية (الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية) سابقاً، أحمد الريسوني، في حين تبنّت الحركة نفسها موقفاً توافقياً لا يخلو من انتظارية لما سيأتي من بعد، والشيء نفسه في ما يخص الحزب الذي تحمل دعواه. المواقف الأخرى كانت فرديةً في طبيعتها وتعبيراتها. والمثير للنظر أن الرفض (في هاته الحالات كلّها) لم يكن على قاعدة دينية أو فقهية، بقدر ما أنه كان بشحنات اجتماعية وحياتية، أو ذات علاقة بالذكورية المغربية، من نوع إثقال كاهل الرجل خاطباً أو زوجاً أو ميتاً، أو من قبيل اقتسام الثروة (من دون إثبات وجودها!) وحصول المرأة عليها… وخلاف ذلك.
أمّا في الردود الجماعية الرافضة من المجتمع المدني، فقد صدر بلاغ (بيان) عن رابطة غير معروفة، وذات حضور خارجي (رابطة علماء المغرب العربي التي لم تلقَ الصدى الذي توخّته)، وعن جماعة العدل والإحسان (تشتغل من خارج النسق السياسي والدستوري، وتناكف في موضوع إمارة المؤمنين من دون الإحالة عليه مجدّداً، علماً أن رفض الملك العاض أو العضوض والشرعية الدينية في رأيها موضوعان سياسيان أساسيان، وإن لم تعد تحييهما في النقاشات العامّة لأسباب يطول شرحها).
وأمّا التنسيقية النسائية من أجل التغيير الشامل والعميق لمدوّنة الأسرة، فقد سجّلت استمرار مدوّنة الأسرة في ترسيخ التراتبية، ومنح الرجل امتيازات تحرم النساء من حقوقهن الإنسانية، وتتنافى مع مبدأ المساواة، ممّا يتعارض مع الأهداف المعلنة لهذه الورشة التشريعية، في حين بادرت التنظميات الديمقراطية والتقدّمية السياسية خصوصاً إلى تسجيل ما تحقّق وتثمينه، مع الدعوة الى استمرار المرافعة من أجل “تحقيق ما لم يسمح السياق الحالي بضمانه”.
ويُعدّ المؤرّخ (والمفكّر) عبد الله العروي من أكثر المثقّفين المغاربة سِجالاً (ولو لم يكن هو نفسه ميّالاً إلى ذلك) عن عمق فكري وتقدير عقلي، وعن موضوعية تاريخانية، لا تتنكّر لانحيازها إلى الماركسية الموضوعية في قراءة الواقع المغربي، والعربي الإسلامي عموماً. ولعلّه الصوت الذي ينتظره كثيرون في هذا النقاش، وهو قد استبق النتائج بوضعه للإشكالية في عمقها، مع مراعاة قدرة المجتمع على الاستيعاب. وقد ورد في كتابه “دفاتر كوفيد” ما يأتي: “سبق لجلالة الملك أن قال في خطاب العرش 2022: باعتباري أمير المؤمنين لا يمكنني أن أحرّم ما أحلّ الله ولا أحلل ما حرّم الله
وهذا لا يفصح عن شيء عن قناعاته الحميمية الخاصّة ولا عن إمكانية تأويل كلام الله، كما أتيح ذلك في مناسبات أخرى. لقد أتيح لي أن أقول للجمعيات النسائية إنها تخطئ الطريق عند مطالبة الملك بأن يعارض رأي العلماء أو أغلبية الشعب. فإن ذلك يشبه مطالبة البابا بمباركة زواج المثليين. عندما يتحدث النسوانيون والنسوانيات عن المرأة… (يتحدثن) عن كائن ذهني لا عن كائن قانوني (الشخصية القانونية هي الشخصية التي لها حقوق وواجبات، ومن بين حقوقها الحق في إبرام عقود)، فالقانون لا يعرف سوى الابنة والزوجة والأم أو الأرملة أو المطلقة. والصعوبة لا ترتبط بالدين، بل بالاقتصاد. ففي مجتمع الوفرة، يمكن أن يحضر الفاعل الديني بارزاً، ويمكن أن يوضع موضع مساءلة عن صواب وعن حق… لكن ليس في مجتمع الحاجة حيث فكر وسلوك كلّ واحد تمليه المصلحة أولاً وقبل كل شيء… ولا يمكننا الإفلات من هذا الوضع كما هو إلا بمغادرة الساحة الجماعية بطرح المشكلة على المستوى الفردي المحض، بحيث يكون كلّ واحد مجبراً على أن يرى نفسه في المرآة، ويقرّر إلى أي حدّ يمكنه أن يمتثل لنزواته الأنانية… والحل الذي وضعت ملامحه، ويمكن أن يقترح على الدولة بكل عقلانية هو اقتراح الوصية الإجبارية، فالدولة تفرض على كلّ واحد تصريحاً بالثروة ومصادرها، ويمكنها والحالة هذه أن تجبر كلّ واحد على أن يُعرب عمَّا ينوي القيام به بهذه الثروة، بكل حرية وبكامل وعيه”.
والمثقف الديني أو الداعية هو نفسه يتعامل مع المؤمن الذكر بنظرة الكائن الذهني، أي ذلك الذي ترشّحه الكتب الدينية وسيرة العصر الذهبي لأن يكون نموذجاً مثالياً للذكورة في الكون. في حين أن المسلم الواقعي قد يكون عكس ذلك، قد يكون شيطانياً منقطع النظير في حالات اجتماعية تفرض عليه أنانيته فيها أن يلتهم أفراد أسرته.
والسؤال هو كيف يستطيع المغرب المسلم أن يجد الملاءمة بين ثوابت العقيدة السماوية والاتفاقيات الحقوقية المتعارف عليها كونياً؟ … يكمن في النبوغ المغربي، بإعداد الاجتهاد البنّاء، وكذلك في جعل الدستور، مُعبّراً لإمارة المؤمنين من المبادئ نحو القوانين. من الاستثناء المغربي أن التحديثي والتقليداني يجدان معاً مرجعيتهما في إمارة المؤمنين، حتى إنك تجد اليساريين أكثر المدافعين عن قدرتها الإصلاحية وضمان التجديد، وتجد التقليدانيين أكثر تشبّثاً بها في الحفاظ على الثوابت والترشيد المضبوط. ذلك أن المتّفق عليه مغربياً هو أن أمير المؤمنين لا ينتج نصوصاً دينية، بل يتيح للمواد الدينية المتّفق عليها أن تكون قوانين (كما نشاهد اليوم)، وهو أمر بالغ الأهمية، ويعتبر الطريق من المبادئ الدينية إلى القوانين. حتى إن الذي يسترعي الانتباه في حالتنا اليوم هو أن التعديلات التي تمّ التوافق عليها صارت بيد الحكومة التي ستحيلها على البرلمان ليتابع المسطرة، باعتبارها قوانين وتخضع لما تخضع له مشاريع القوانين الأخرى، وفي هذا لا بدّ من الانتباه إلى جوهر العملية كما اتفق عليها كثير من الباحثين، منهم عبد الله العروي ومحمد الطوزي وأحمد التوفيق، ومن ذلك:
أولاً، ربح المغاربة إمارة المؤمنين بقوة الدستور، حيث أصبحت مؤسساتية ومُدسترة.
ثانياً، هذه العملية توضح بقوة طريقة المغرب في تدبير فصل السياسة عن الدين عبر مأسَسة إمارة المؤمنين. ولهذا نفهم إحالة ملك البلاد عليها مع التشديد على قوله “أنا لا أحلّل حراماً ولا أحرّم حلالاً”.
ثالثاً، الملك مسؤول عمّا يُنقَل بوصفه مبادئ وقواعد دينية إلى الحقل السياسي.
رابعاً، الملك لا يُقرّر في الدين، بل في القواعد التي قد تصبح قوانين، ويعطي رأي المؤسّسة التي يمثّلها، ويقدّم صورةً عن تدبير الدولة للحقل الديني كما عاشه المغاربة منذ 2003، وترسّخ منذ 2014.
خامساً، وضوح المسافة جليّاً بين السياسة والدين، والانتقال بينهما. ومنها أن إمارة المؤمنين لا تقوم بإنتاج المعايير الدينية أو صناعتها، بل تدقّق وتحدّد انتقالها إلى الحقل السياسي.
سادساً، المغرب لا يوجد فيه إفتاء شخصي، أي لا عالِم يمكنه أن يدّعي أن رأيه قانون، فالفتوى صارت جماعية، وصار الإفتاء مؤسّساتياً. ويمكن في بعض الأحيان أن يصدر ما قد يزعج من طرف بعض العلماء، لكن لا يمكن لأيّ أحد أن يقول إنّ رأيه الديني هو القانون.
من المحقّق أن أهمّ ما يحدث نجاح إشكاليٌّ في استنبات الإصلاح في حقل ألغام، إذ تلتقي (أو تتصادم) القطعيات الدينية مع ضرورات التحديث والعدالة الاجتماعية. وحيث النصّ الفقهي يخضع لامتحان المصلحة الدنيوية، وتخضع القناعات المجتمعية لاختبار العيش الهادئ مع النصوص الفقهية. هذا الموضوع ربّما برز بشكل كبير في مواجهة المثقّفين المقتنعين بالتحديث مع قضية التعصيب كما يفهمها الفقهاء. وقد انتصرت الاستشارة المطلوبة من لجنة المدوّنة للفقيه على حساب المثقّف. تعود القضية إلى أربع سنوات خلت، عندما وقَّع أزيد من مائة مثقّف مغربي على نداء من أجل إلغاء التعصيب. والتعصيب كما هو معروف في نظام الإرث، إحدى طرق توزيع التركة على الورثة، ولا سيّما الأعمام في حال عدم وجود أبناءٍ ذكورٍ وبوجود إناث فقط. وكان الموضوع قد حظي بتعبئة ما لا يقل عن عشرة آلاف توقيع للتحسيس بالقضية، واعتمد الموقّعون في الدفاع عن إلغاء هذا الاقتسام على ما يتم تسجيله من “عنف أحياناً، حتى قبل الدفن خلال فترات الحداد والألم، بسبب أن الوارثين بالتعصيب يطالبون بحصصهم من الممتلكات والأثاث والهدايا التذكارية، أو يجبرون النساء الثكلى على بيع منزل أسرتهن”، واحدةً من الأثافي التي رُصِدت، معتبرين أن “حكم التعصيب اجتهاد وليس أحكاماً قرآنية”، حتى إن بعض الفرق الإسلامية لا تطبّقه ولا تعترف به.
المثقّفون، ومنهم حداثيون وبعض المنتمين إلى التيّار الوطني المتنوّر، وكتّاب وباحثون وغيرهم، اعتبروا التعصيب “قاعدةً ظالمةً”، مضيفين أن “اليتيمات اللواتي ليس لهن أشقاء عليهن، بحسب قاعدة التعصيب، تقاسم الإرث مع أقرب الذكور إلى المتوفّى، حتى إن كانوا مجهولين، ولم يسبق لهم الاتصال بالأسرة”. وبالرغم من أن الحقائق الإحصائية والمونوغرافيا السوسيولوجية تثبت أن الخريطة الأسرية تغيّرت، وحقائق الواقع استنبتت معطياتٍ جديدة لم يسبق لها أن زعزعت المجتمع المغربي، فإن الدعوة لم تلقَ الاستجابة من اللجنة المكلّفة، واحتفظت بالتعصيب طريقةً في اقتسام الإرث. وهو ما حسم النقاش، مرحلياً لفائدة الفقيه على حساب المثقّف.