رسائل من رماد: «من عقول الإبداع إلى عقول الانتقام»

بقلم: زكية لعروسي

 

في ليلة كان يُفترض أن تكون عيدًا للإنسانية تحتفي فيها بالأمل واستقبال العام الجديد، تحولت مدينة نيو أورلينز الأمريكية إلى مسرح مأساوي جُبلت فيه الطرقات بالدماء، وانطفأت فيه بهجة الأنوار. في قلب مركزها التاريخي، حيث يلتقي عبق الماضي بإيقاع الحياة الحديثة، اقتحمت مركبة قاتلة الحشود، لتخلّف وراءها ما لا يقل عن 15 قتيلا وثلاثين جريحًا، بينهم شرطيان، قبل أن يُقتل الجاني.

هو شمس الدين جبار، مواطن أمريكي، تلاشى اسمه في لحظة في خضم الأحداث، لكن ظل وراءه سؤال مرير: كيف تحول إنسان يحمل هذا الاسم المشرق إلى أداة عمياء للعنف؟ وما الذي دفعه، في لحظة الجنون تلك، أن يترك آثار الحقد على أجساد الأبرياء؟ وجدت السلطات الفيدرالية علم تنظيم الدولة الإسلامية في شاحنته، وكأن هذا الرمز المظلم أضحى الشاهد الصامت على تلك العقول التي خرجت من ظلال الفكر الخمولي إلى كهوف التطرف والانتقام.

 

 

لقد كنا يومًا أمة تنير العالم بعقلها البياني الذي صاغ البلاغة والفكر، وبعقلها العرفاني الذي غاص في أعماق الروح، ثم بعقلها البرهاني الذي أضاء دروب العلم والمنطق. لكننا اليوم نقف في حقبة من “عقل اليُتم”، حيث تشظّت الأفكار وتمزقت الروابط، لتلد أجيالًا بلا بوصلة، تتلقفها أيدي الظلاميين وتحولها إلى أدوات للقتل والدمار. من هنا خرجت التنظيمات المتطرفة، تستثمر في فراغ العقول وانكسار النفوس، لتحول أسماء كـ”شمس الدين” إلى ظلالٍ معتمة تخنق الضياء الذي كان يومًا رمزًا لنا.

خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته الشرطة الفيدرالية، تم الكشف عن أن شمس الدين كان من قدامى المحاربين، وأنه ترك الجيش بطريقة قانونية، لكن يبدو أن شبح الحرب لم يغادره. عُثر أيضًا على عبوتين ناسفتين في موقع الحادث، وكأن القتل لم يكن كافيًا، بل كان المخطط أوسع نطاقًا وأشد وحشية.

من نيو أورلينز إلى عواصم العالم الإسلامي، يجب أن نتأمل هذا السقوط المدوي. كيف انحرفنا من أمة “اقرأ” التي أرسلت أولى إشعاعات العلم والفكر، إلى عقول تتغذى على الموت وتقتات على الكراهية؟ كيف سمحنا لتاريخنا المليء بالحضارات أن ينهار أمام موجات الجهل والتطرف؟

قال الرئيس جو بايدن: “لا يوجد مبرر للعنف”، وهي جملة تُذكرنا بأن الطريق لاستعادة إنسانيتنا يبدأ من الرفض القاطع لهذه الأفعال، والعمل معًا لإعادة العقول إلى مسارها الصحيح. ولكن قبل ذلك، علينا كأمة أن نواجه أنفسنا بشجاعة، وأن نتساءل كيف تآكلت هويتنا حتى أصبحنا أسرى لعقول الدواعش، بدلًا من أن نكون صُنّاع عقول النهضة.