بقلم: زكية لعروسي
لا يمكن لعقل سويّ أن يستوعب كيف تصبح جثة إنسان، وهي رمز للسكينة والسلام، رهينةً بين أيدي أحقاد الجيران. قصة عبد اللطيف أخريف ليست مجرد مأساة إنسان فقدته أسرته في غياهب البحر، بل هي مرآة تعكس انحدار قيم الإنسانية حين تتلوث بنزعات الانتقام والتشفي. أن يصل الأمر إلى أن تسيس الجثث، وأن يخوض الأحياء معركة فوق جسد ميت، فهذا انحدار لا مثيل له، وحادثة ترسم بوضوح مدى الانفصال عن المبادئ الأخلاقية والأعراف الإنسانية.
في تراثنا العربي نقول: “الميت لا عداوة له”، لكن يبدو أن الفطرة اختلت، وهذه القاعدة قد أُلقيت في زوايا النسيان. أن تصبح جثة عبد اللطيف، التي عذّبها البحر ولفظتها الأمواج، أداة في لعبة كراهية سياسية، يعني أننا نعيش في عصر خالٍ من الرحمة.
الأديب الروسي دوستويفسكي قال ذات يوم: “يمكنك أن تعرف مدى رقي أي مجتمع من خلال معاملته لموتاه”. فإذا كان ذلك المعيار، فأين نحن اليوم؟ كيف لجثة إنسان أن تظل شهورًا تنتظر حقها في التراب بسبب مساومات دنيئة؟ يبدو وكأننا في فيلم خيال مرعب، حيث يصبح الخيال هو سيد المشهد، بينما الواقع ينهار تحت وطأة الجهل والحقد.
عبد اللطيف أخريف، ككل ضحايا البحر كان الموت أسرع إليه. البحر لم يكن عدوه، بل أولئك الذين رفضوا أن يعيدوا جسده المكسور إلى حضن أمه. ليست المأساة في الغرق، فقد يكون قدرًا محتومًا، بل في النفوس التي أظلمتها الكراهية، والتي وجدت في جثة هامدة وسيلة لمزيد من التصعيد.
المغفور له الملك الحسن الثاني قال ذات يوم: “حتى يعلم الناس مع من حشرنا الله”. هذه الكلمات اليوم تقف شاهدة على هذا الوضع المرير، حيث يُحشر الإنسان بين جيران أصروا على تشويه الفطرة، ودفن الإنسانية تحت أحقاد السياسة.
“إنا لله وإنا إليه راجعون”. كلمات نقولها في كل مأتم، لكنها في هذه الحادثة تأخذ بعدًا جديدًا، فهي ليست فقط تسليمًا بقضاء الله، بل صرخة مدوّية ضد واقع يحزن ويفزع. شهور طويلة من المساومة على حق بسيط: عودة جثة إلى أهلها. أية مرآة هذه التي تعكس ما وصل إليه جيراننا؟ أن يتحول الموتى إلى ضحايا نزاعات سياسية، فهذا دليل على انهيار القيم، وتفشي الجهالة.
اليوم، تنتهي الحكاية بعودة جثمان عبد اللطيف إلى أهله، لكنها ليست نهاية سعيدة. هي شهادة على مأساة إنسانية لن تُنسى، ووصمة عار تظل محفورة في الذاكرة. عودة الجثة ليست انتصارًا، بل فضحًا للعمق المظلم الذي انحدرت إليه الضمائر. وكما قال محمود درويش:
“الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء”.
لتكن هذه الحادثة درسًا في الإنسانية، ويقظة ضمير ليس فقط لعائلة عبد اللطيف، بل لكل من فقد إنسانيته في خضم الصراعات الزائفة. فكلنا راحلون، لكن الجثث لا تُسيّس، الموتى لا يُعادون، والموت ليس ساحة معركة.
لك السكينة والسلام يا عبد اللطيف اخريف ولأمك، وعائلتك الصبر والسلوان.