بقلم: زكية لعروسي
في عتمة التاريخ، يتردد صدى قصص لمآسٍ تجسد سقوط الإنسانية أمام الأطماع والحسابات البئيسة. قصص تفوق الخيال بفظاعتها، وتجعلنا نتساءل: متى أصبحت الجثث، رمز السكينة والسلام الأبدي، رهينة في سوق المساومات السياسية؟ أليس في ذلك انتهاكٌ لحرمة الموت واغتيالٌ للكرامة الإنسانية التي يقدسها كل دين وكل عرف؟
منذ أقدم العصور، عرفت الحروب والخصومات ممارسات تجردت من كل القيم الأخلاقية، حيث تحولت الجثث إلى أوراق ضغط. في الحروب الصليبية، كانت أجساد القادة تُباع أو تُفتدى مقابل أموال طائلة. وفي العصر الحديث، استُغلت جثث الضحايا في النزاعات كوسيلة لابتزاز الخصوم أو التلويح بالقوة. لكن هذه الممارسات، رغم قسوتها، كانت تنتمي إلى أزمنة ظن البشر أنهم تجاوزوها مع تقدم الحضارة وسمو القيم الإنسانية. ومع ذلك، ما زال الواقع يفاجئنا بما هو أكثر بشاعة. ما حدث لجثة عبد اللطيف الخريف في الجزائر ليس إلا مثالاً حياً لهذه التراجيديا المستمرة.
الموت لغة تفوق السياسة. هي لحظة تجمع البشر في ضعفهم وتذكرهم بهشاشتهم. وهو الحد الذي تسقط عنده الأقنعة، إذ تعود الروح إلى بارئها، ويبقى الجسد ليحظى بالدفن بكرامة. لهذا، كانت الحضارات عبر التاريخ، مهما بلغت صراعاتها، تحترم الموتى وتفصل بين الجسد والسياسة. فهل تجاوزنا حتى هذا الحد الأدنى من القيم؟
احتجاز جثة عبد اللطيف هو انتهاك صارخ لكل الأعراف…جثة وُجدت، لكن الروح التي كانت تسكنها بقيت حبيسة سجال سياسي، ورهينة قرارات لم تراعِ حرمة الموت ولا قداسة الجسد. أي زمن هذا الذي يُتاجر فيه بالجثث؟ أي عصر نعيش فيه حيث تتحول الأم إلى متسولة تطلب بألم دفن ابنها؟
3 mois que la mort sépare cette maman de son fils. Le corps d’Abdellatif Akhrif est prisonnier en Algérie. Quelle cruauté de priver les siens d’une sépulture digne. Le silence assourdissant face à cette injustice est insupportable. Est ce cela L’islam ? pic.twitter.com/XCnpYPYu4D
— Mourad Elajouti (@Elajouti) December 4, 2024
أليس الموت هو الحقيقة المطلقة التي تُسقط كل الحواجز؟ أم أن الإنسانية قد تآكلت حتى أصبحنا نذبح الأم مرتين: مرة حين فقدت ابنها في غياهب البحر، ومرة حين بقي جسده سجين الأوراق والمساومات؟
هذه الأم لم تطلب شيئاً مستحيلاً، لم تطالب بحسابٍ سياسي أو انتصارٍ دبلوماسي، بل ناشدت بقلب أمٍ يعتصره الألم الأم التي تطالب بأبسط حقوقها: “دفن ابنها في وطنه”. صوتها ليس مجرد نداء، بل هو صرخة تمزق القلوب:
“أمنيتي الوحيدة هي أن أدفن ابني. أناشد إخواننا الجزائريين أن يفتحوا قلوبهم لإنسانيتي، أن ينظروا إلى وجعي، وأن يساعدوني على إعادة رفات طفلي لأودعه وادفنه بكرامة. كيف تقسون على أم فقدت ابنها؟ كيف تحكمون على قلب أم أن يبقى مكسوراً إلى الأبد؟”
فأي كلمات يمكن أن تُقال أمام هذا النداء؟ وأي ضمير يمكن أن يبقى صامتاً أمام هذا الرجاء؟
دلوني على لغةٍ أستطيع أن أُخاطب بها قلوب الساسة الجزائريين، لغة تُحيي في النفوس ما مات فيها من إنسانية. دلوني كيف أُذكّر إخواننا بأن هذه الجثة ليست مجرد بقايا جسد، بل هي قصة حزن، بل صرخة جثة يجب أن تُلبّى. هل نبكي أم نبقى صامتين حتى نتحول إلى تماثيل من حجر؟
التاريخ يا ساسة يزخر بأمثلة تضرب لنا أروع الدروس. عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، رغم الدماء التي سالت، تبادلت القوى الكبرى الجثث احتراماً للإنسانية. بل إن الحضارة الإسلامية كانت دوماً تحترم جثث الأعداء، كما فعل الرسول الكريم مع قتلى بدر وأحد. فكيف نتجرأ على احتجاز جثة إنسان توفي وهو غير مبال بكل هذه الحسابات؟
حتى الأمثال الشعبية تذكّرنا بأن الموت لا يُساوم عليه: “الميت لا يُكره على شيء”، و”حُرمة الميت كحُرمة الحي”. فكيف أصبحنا في زمن يُحتجز فيه الموتى ويُساوم بهم كما لو كانوا أشياء بلا قيمة؟
أيها الجيران، إلى متى ستبقى هذه المأساة؟ وأي منطق يبرر احتجاز جثة؟ أليس الموت ميثاقاً مقدساً بين الخلق والخالق، لا يخضع لأي سجال سياسي أو حساب دنيوي؟ ألا يقال إن الأخوة في الموت تعيد الأحياء إلى رشدهم، فكيف بجثةٍ تُترك تحت وطأة الخلافات؟
ألم تعلمنا الحروب والحدود المفتعلة أننا جميعاً بشر في النهاية؟
القضية هنا ليست مغربية أو جزائرية، ليست نزاعاً بين دولتين أو شعوباً، بل هي امتحان لإنسانيتنا. هل نختار أن نكون بشرًا نحترم الموت وندفنه بكرامة، أم نسقط في مستنقع الحسابات البائسة؟
هذا النداء، ليس فقط نداءً مغربياً، وليس فقط نداء أم، بل هو نداء الإنسان لأخيه الانسان. إنه اختبار لضمائرنا، واختيار بين أن نبني جسور الأخوة أو نحفر مزيداً من الخنادق. لتكن الإنسانية هي المنتصر في هذه القصة المؤلمة، والموجعة، لا صوت يعلو فوق صوت أمٍ كُسرت مرتين. كل ما تطلبه هو كفن لكرامة ابنها، وتربة تحتضنه في وطنه. أفلا تستحق ذلك؟