بقلم: المصطفى غزلاني
تثير فينا كلمة كُحل انجذابا إلى العين فالنظرة فالرؤية فالضوء فالعالم.. فإذا كانت كلمة كُحل تجعلنا في حضرة عين العقل، فإن مادة الكحل ترغمنا على استحضار العين؛ تلك العاشقة، تلك الشزراء، تلك الجامحة، تلك الثاقبة..
يعتبر العظم هيكل الجسد ودعامته الأساس، هو، إذن، بنية محجوبة خلف سطح المرئي. الهيكل جسر يشد الحياة إلى الحياة. وأيضا، يعتبر العظم حضن مخ.. المادة الأرهف. في حشيه حياة مستترة ليست سالبة البتة. العظم حامل جسد وحاضن جسم: امرأة حامل تمشي وعلى رأسها سلة خبز..
إذا كان الكحل اسم مذكر لا ينتصب له معنى ولا يستقيم له فعل إلا في إيوان التأنيث، فإن العظم يبقى من الأسماء الأصلح للتذكير كما للتأنيث.
عند مدخل الرواق في الجانب الأيسر تبّت عمل فني في حجم دائري ومن سند خشبي سميك. هو أول عمل يبادرك قبل أن تبادره وهو آخر عمل تراه قبل أن تغادر. هيمنة الدائرة. الهامش الأول بطلاء أسود مباشرة على الخشب. المجال الدائري الثاني مغطى بمادة الكحل مفروما وخشنا يمتد على ثلث شعاع الدائرة. في المركز مباشرة فراغ يهيمن عليه سواد الخلفية وإلى الثلث الأول من مساحة العمل، صففت قطع عظمية اعتراضية جوفاء، متساوية السمك، مختلفة القطر. بياضها الطبيعي يكفي لخلق التقابل الأكمل إزاء سواد الكحل.
موا لم يسم عمله هذا، كل ما وضع عليه تأشيرة: بدون عنوان، 2011، عظم وكحل فوق خشب، 170 على 170 سم. غير أن العمل يقدم رسولا فوق العادة بدلالة العين: بياض على سواء وعليهما كحل وعلى الكل سواد الحاشية. سأسمي هذا العمل، بإذنك سيدي الفنان: “العين”
أن ترى الشيء يعني أنك تملكه عن بعد، كما قال صاحب العين والعقل. الرؤية تقتضي، بعد تحديد الشيء فيزيائيا، أن تدركه، أن تؤوله، أن تعشقه، أي أن تحوله من حالة وجود الشيء لذاته إلى حالة فكرية مّا. في حقيقة الأمر إنك لا تحوله إنك أنت من يتحول إليه.
تقف أمام عمل موا يصيبك عطش غريب، يسكنك.. تحرص على ألا تنفلت يدك وتمتد إليه.. إنه عطش في حاسة اللمس.
تعتقد شعوب سبيريا أن العظام ضرورية لبعث الحيوانات من جديد.. ويعتقد موا أن العظام تصلح لبعث استعارة الوجود: الإبداع.
عندما اجتزت مدخل الرواق، مساء يوم 14من شهر دجنبر عام 2011، لم أكن قد تعرفت إلى السيد موا بعد، وفي حقيقة الأمر لم يكن يشكل لي ذلك خصاصا بعينه ما دمت أعرف إبداع الرجل، غير أن السؤال المفاجئ الذي ولده عندي عمل “العين”، جعلني أعود إلى استفهام أكثر تجذرا: هل هو الفنان موا الذي أعهد؟ أليس هذا العرض جماعي عكس ما وصلني في الدعوة؟
لا يهم. تابعت تفادي المدعوين وتابعت التوقف عند العمل الموالي فالموالي.. هيمنة سواد الكحل، تكتل بياض العظام، تختلف الأحجام؛ تكبر تصغر.. فجأة، تطالعني تموجات موا المُحفَّظة في سجل الذاكرة الجمعية، ذلك التعانق الأبدي بين المادة والفراغ، بين اللون وألا لون..
انتقلت من هيمنة المادة إلى هيمنة اللون.. والحقيقة، أن الفنان انتقل من هيمنة اللون إلى هيمنة المادة.
أمام تجربة موا الأخيرة، وخاصة “العين” وجدت نفسي مجبرا على السفر في بعدين؛ دياكروني وسانكروني. العظام وحدها، تستلزم أكثر من إنصات: بدءا بالأحجام والسمك والأشكال واللون.. وصولا إلى المكون النووي ومكملاته وكميائية التكوين.. مرورا بغناه السميائي داخل بنيات عدة.
أما الكحل؛ المادة التي تصالح العين مع المادة.. يشدد المسافة بين الرائي والمرئي…
وحين يحل التركيب بين هذين العنصرين، يتقدم المعنى بفروة الغموض الضاج.. المسألة تقتضي الإقامة في العمودي ومراقبة الأفقي في الآن..
في زاوية من زوايا الرواق وسط زخم الأمسية عثرت على السيد موا. لم يقف أحد بيننا ليكون زطاط التعارف. قدمت له نفسي، وأتممت التحية والتهنئة له بقوة معرضه، وأتممت حديثي عن تجربته الجديدة… وحين أفسحت بعض السكات بادرني على صيغة المعترف بكبيرة ما:” إني لا زلت لم أتمكن من إتقان هذه التجربة“. ربما، لأن رد السيد موا، كان في الضفة الأخرى من أفق انتظاري، شيء ما جعلني أحقق النظر إلى الرجل، في وجهه، في شعر لحيته الأبيض الذي يتجاسر على الوجنتين، في شفتيه المتخفيتين خلف الشاربين، في عينين خلف الزجاج بارعتي البصر.. هناك شخص آخر كتب عام 1906 وكان عمره 67 سنة:” … أ أبلغ الهدف الذي طالما بحثت عنه وطاردته؟ …” إنه بول سيزان. كلما انشغل المبدع بالعمق زاد ارتباكه.
قال موا: “إني لا زلت لم أتمكن من إتقان هذه التجربة…” معنى آخر قدمه السيد بهذا الإقرار المباشر.. معنى لا ينتمي إلى هواء الرواق بزمنه وأناسه في عطرهم وغنجهم.. إنه ذاك المعنى الذي يستطيع أن يقتادك إلى مرقده الخاص: صمت المرسم، خلوة المرسم، شساعته لمئات التجارب ورحابته للنوايا الإجرائية المبيتة والمستقبلية..
غادرت المعرض تاركا الصخب يدُعّ الصخب. عند المخرج كانت “العين” أخر ما رأت عيني، بينما شددت على:” إني لا زلت لم أتمكن من إتقان هذه التجربة “. شددت على العبارة وأنا أذرع الشارع رفقة صحابي. كيف يقر فنان يشارف السبعين من عمره – سنينا قضاها في فعل الصباغة – يقر بأنه لا يتقن ما قدم؟ وقبل هذا، استفهام آخر يلح: كيف ركِب الرجل مخاطرة التجديد بهكذا طريقة وهو في مُدرَكه المعهود؟
حينما ينزع الفنان أول الاعتراف يكون كمن ينزع نفسه من جسم العالم، وحين الاعتراف الثاني ينتزع لنفسه قطعة من العالم وهكذا إلى أن يصير ذاته عالما.. حينها لن يصبح للعالم معنى إلا في ما ينجز ويبدع. موا يهيأ السند، يرتب المواد، يلصق، يعيد الرُّتب، يحك، يمشط، ينظف… يستريح. تتوقف حركة الفضاء دون أن تتوقف حركة الخاطر.. في العين تموج أفكار عدة، كلها تبحث عن موطن لها ضمن تضاريس وألوان الأشياء. قليل منها يستقر إلى الأبد. ينتهي موا من طوره مراجعا طمأنينة العمل/ العالم. سكنت الرؤيا وهيمنت الرؤية.
نفض موا يده، خلع قبعة المحترف السوداء، دلف يتمشى، يبحث عن بعض ضجيج الناس من أجل توازن ما.. يصير موا محمد بناني، إن حييته حياك كأنه يعرفك زمنا؛ ابتسامة وديعة، نظرة هادئة وكلام أقل…
قلت غادرت المعرض!! لا، لم يحدث الأمر هكذا. هناك معارض نخرج منها تماما، متى نخرج منها سالمين، وأخرى لن ننجو من إصابات ألغامها البليغة، فجأة، تصير أبدية… نخرج وشيء ما يسكننا.. نحمل معنا بعضا من دسائس الفنان..
ابتعدت عن الرواق لكن “العين” قررت أن تصاحبني.. لا زالت تصاحبني.. هي ليست عين آدمي أو حيوان أو طائر … إنها عين العالم.