بقلم: المصطفى غزلاني
تثير مقاربة “الفن المعاصر” إشكالات عدة منذ الفهم والاستيعاب إلى التأويل والتفكيك، وذلك في كل مجالاته التعبيرية الإبداعية. هذه الحالة من عسر الفهم تولدت خلال ثمانينيات القرن المنصرم، حيث صار إيقاع الإبداع الفني أكثر سرعة من الطاقة الاستيعابية لدى المجتمع والمتلقي خاصة. ونظرا لاتساع الهوة أكثر فأكثر ارتأت الناقدة الفرنسية إيزابيل دو ميزو روج “Isabelle de Maison Rouge أن تصدر كتابا بعنوان دال: “عشرة مبادئ للانفتاح على الفن المعاصر” تلخصها في ما يلي:
1 – ينبغي الحرص على وضع العمل الفني في سياقه الخاص.
2- لا ينبغي إغفال مبدأ أن الفنان هو كائن مرتبط بمرحلته.
3- لا ينبغي الاعتقاد بأن الفنانين الراهنيين ناسون لتاريخ الفن وتقاليده. بل على العكس تماما ، فهم ليسوا أبناء جيل عرضي.
4- يجب التذكير بأن الفنان لا يروم بالضرورة تمرير خطاب ما… لهذا يستحسن تفادي البحث عن الرسالة المتضمنة في العمل.
5- يستدعي العمل في غالب الأحيان، انخراطنا ومشاركتنا فيه.
6 – ينبغي الوعي بأن الفنان اليوم لم يعد حامل معرفة خبراتية، إلا أن هذا لا يعني فقدان اللغة التشكيلية والإيماءة الإبداعية.
7- سنكون مخطئين إذا اعتقدنا أن الفنان المعاصر يبحث عن أفكار جديدة. فهو لم يعد يطمح إلى أن يكون رائدا. لهذا، فالفن اليوم يتخلى عن البحث عن الجدة بأي ثمن.
8- رغم أن العمل الفني، عند الوهلة الأولى يبدو سهلا ( أو فقيرا حتى) إلى درجة الاعتقاد أن أيا كان يمكنه القيام بمثل ذلك… إلا أنه بدل التعليق من باب ” حتى طفلي الصغير يستطيع القيام بهذا ” أو “أستطيع القيام بأحسن من هذا”… بدل هذا، علينا أن نسائل أنفسنا :” كيف سأقوم بأحسن من هذا العمل؟”
9- إن المتلقي هو من يتحمل فهم العمل، وعليه أن يغني لغته من أجل معرفة مفردات جديدة، معرفة أسماء الفنانين، التيارات الفنية الحالية… فكل هذا ضروري لعملية التلقي.
10- تجب مواجهة هذه الأعمال الفنية المعاصرة.. وتكرار التواصل معها، حتى يحصل الاستئناس والألفة وبالتالي يحصل التلقي والتجاوب.
ثم انتقلت الكاتبة بعد تقديم هذه المبادئ/المفاتيح إلى التفكيك و التفصيل في كل واحد وبشكل معمق. يجدر التنبيه إلى أن الكاتبة فرنسية خالصة الأصل كما يفشي بذلك القرين “DE » في اسمها العائلي. ولا بد أن المؤلفة طرحت هذا الدليل بعدما رأت أن مجتمعها الفرنسي، حامل سلالة تاريخ الفن، لم يعد يستوعب إيقاع الفن المنعوت بالمعاصر.
ألّفت كتيبها هذا، لأنها أدركت خطورة أزمة التلقي التي باتت تتسع بين الفنان والمجتمع، وكيف أن دور الوسيط بات حاسما، بل صار يحيي ويميت ما يشاء من الفنانين ومتى وكيف يشاء. ذلك، لتخلص هذا الفن من المرجعيات المعهودة؛ إيديولوجية، دينية، إثنية، إنسانية… وهيمنة الرؤية الذاتية عند الفنانين المعاصرين.
ما شدني في هذه المبادئ هو المبدأ الثالث حيث تؤكد المؤلفة أن الفنان المعاصر لا يمارس قطيعة فنية مع التاريخ الفني وتقاليده، و تضيف:”(…) إن راهنية الفن المعاصر تسجل في تاريخ الفن بصيغة الحاضر. لذا، فإن الفن المعاصر يدعو إلى مراجعة التاريخ.” إلى أن تقول:” إن الفنانين المعاصرين يعرفون روادهم الكلاسيكيين. لقد حددوا نماذجهم، ورسموا شجراتهم الجينيالوجية داخل الثقافة الغربية، بدراسة معمقة لأعمال هؤلاء الرواد، يتمثلون النقاط البارزة وكذا حجر التعثر في تاريخ الفن. فهم يحبون استئناف مجرى الحوار والنقاش مع القدامى. يعيدون قراءة أهم الأعمال الفنية برؤية راهنية.” إلى أن تستشهد بقولة كريستيان بولطانسكي:” عندما تتبعت أثر أشياء طفولتي الخاصة، لم أعثر إلا على أشياء الطفولة“- التفخيم من عندي. يريد أن أشياء طفولته الخاصة، هي حتما أشياء الطفولة المشتركة في مجتمعه كفرد، وفي تاريخ الفن كفنان.
عود على بدء:
أنهيت قراءة الكتيب دون الانتهاء منها. تهاطلت أسئلة صاخبة جهة التشكيل المغربي الراهن. حملت رأسي بين كفي وأمعنت النظر إلى وابلها:
بُني تاريخ الفن مما قبل الانطباعية وما بعدها من التعبيرية، التكعيبية، المستقبلية، الفارس الأزرق التجريدية، الطلائعية الروسية، الفن الميتافيزيقي، الدادائية، السوريالية، المدرسة الباريسية ، واقعية ما بين الحربين، الموضوعية الجديدة، الواقعية الاشتراكية، الواقعية السحرية، الجدارية المكسيكية، عودة الطلائعية، التعبيرية التجريدية، الفن الفطري، حركة كوبرا، الفن الصوري، فن الحدث، فن الدفق، فن خارج الحركات، الحركة الفضائية، الحركة النووية، الدادائية الجديدة، الواقعية الجديدة، الفن البصري، الفن المبرمج، البوب أرت/ الفن الشعبي. الشعرية البصرية، المنيمال آرت/ الفن المقتضب، فن الأرض، الفن المفاهيمي، الفن الفقير، فن الجسد، الواقعية الكبرى/ Hyperrealisme، ما بعد الحداثة، محول الطلائعية/ Transavanguardia، الرشوماتي/ Graffitisme، غروب ما بعد الحداثة ثم الفن المعاصر.. بني تاريخ الفن بتماسك منطقي، فالاتجاه أوالحركة تولد الأخرى إما انتقادا أو تكميلا أو نفيا أو تجاوزا .. لكن، الكل مرتبط بالواقع اليومي المجتمعي في كل تقاطعاته الفكرية/ الفنية والعقائدية والمادية/ الاقتصادية…
جهة المغرب كانت الأسئلة محرقة:
من أي المسارب سيتمكن “تشكيل مغربي” من الإقامة في مملكة تاريخ الفن؟
كيف يتجنب “تشكيل مغربي” الاستلاب وهو يسترفد من هذا التاريخ ؟
كيف السبيل إلى بلورة سؤاله الخاص جدا في ضوء العام جدا؟
ما هي شروط الإبداع بالسؤال الخاص؟
بعد مرور قرن من الزمن، كيف يستقيم الحديث عن الريادة؟
هل حقا تحصلت قناعة الحرية، كمبدأ وجودي، عند الفنان المغربي؟
هل يستوعب الفنان المغربي، قبل المتلقي، معنى فن معاصر مع هذا اليتم التاريخ-فني؟
تنهي المؤلفة كتابها بفقرة دقيقة تقول:” إن الفن المعاصر هو اقتراح ذو أدراج: يفتح شيئا فشيئا، إلا أنه ينبغي اقتحام الحواجز واحترام المراحل. هكذا، يجب تنظيم الأسئلة: حول الفن، وظيفته، غايته، ميولا ته، وسائله، فكرته، إضافة إلى التصور الخاص بالفنان عن المجتمع وعن الواقع.” ثم تضيف:” لا توجد بوصلة، لا وجود للنقط المرجعية، لا وجود لقواعد متبعة… ليس ثمة طريق معبدة.”
إذا كانت السيدة إيزابيل تتحدث إلى الفنان الأوربي بما له من تاريخ ثقافي /فني، إذ تذرك مسبقا أنه يملك خلفية فنيةمهيمنة، بل وموجِّهة، فهي بالتالي تدعوه إلى التخلص من إلزامات هذه الهيمنة من أجل شرط إبداعي وتأويلي أهم وأعمق أي وبمعنى آخر، بلوغ لحظة المعاصر.
فكيف يكون معاصرا، إذن، من لا امتلاء له فيفرغه، فيمتلئ بالخاص؟
بعد هذا كله، هل يستقيم الكلام عن “فن معاصر” مغربي؟