*بقلم: أيوب العياسي
قبل عشرين عاما، غنينا التغيير وأنشدنا للوطن أفقا جديدا… رأينا بعضا من أحلامنا يتحقق… وأخرى تبخرت، مع غير قليل من الشيب بدا يغزو نواظرنا. كأنها بداية الجزء الثالث من مسلسل تلفزيوني قديم! لأننا في الجزء الثاني، أصررنا على سداجتنا الأولى. وكانوا لازالوا مصرين على التأكيد لنا أننا المستقبل. وبذلك كنا مقتنعين! ورغم أننا كنا السباقين للقول: “الآن!”، فقد ضيعنا كثيرا من الوقت للحديث عن الحداثة، كقوة يمكنها وحدها أن تقهر الظلام و الجهل. وعن الثقافة، في وقت لم يعد فيه لا الحداثيون، ولا غيرهم، يقرؤون أكثر من سطرين في السنة. ولعل الظلاميين، أكثر استهلاكا للكتب والمراجع المحقق منها والغير محقق. وفي كل صباح، تخرج فتوى جديدة يستهلكها المستهلكون ويتغنى بها المداحون….
قبل عشرين عاما، صرخنا كثيرا أن التغيير يجب أن يحدث من داخل المؤسسات الحزبية، ومن خلال الديموقراطية الداخلية. ورأينا لوقت كبير، أن العمل الجمعوي أكثر براغماتية وأنجع في أجوبته، من خلال المشاريع التنموية والحركية الثقافية والتنشئة الإجتماعية، على انتظارات المواطنين؛ من الإنخراط في أحزاب لا يهمها في السياسة إلا مفهومها الإنتخابي الضيق، وترجمة تواجدها إلى عدد من المقاعد. وما مع ذلك من مصالح،لا تعدو أن تكون شخصية!
ثم فهمنا أنه لا يمكن إقناعنا -مع ذلك- أن الجمعوي يمكنه أن يكون بديلا للسياسي. وأن وحده الإنخراط في الأحزاب والمشاركة في الإنتخابات، هو باب الإسهام في تدبير الشأن العام، وفرض التغيير على أرض الواقع. وفي نفس الوقت أقنعنا مجايلينا أننا وإن كنا ننادي بالتمييز الإيجابي للشباب والنساء، أي منح أكثر فرص لمن لهم فرص أقل، فإن الشباب ليس إمتيازا إجتماعيا وإنما مرحلة عمرية… كما أقنعنا أساتذتنا ومن احتدينا بهم من قدوات أن مبدأ “أمولا نوبا” و”شد الصف” أو “السفيفة” بلغة أهل “البرشمان” مبادئ حزبية لا ضرار فيها. وأنه معها، يمكن للشباب والشبيبات فرض موطإ قدمها داخل الأحزاب وهياكلها. وكان يجب أكثر من عقدين ليتحقق هكذا أمل، ونرى الشباب في اللجان المركزية والمجالس الوطنية والمكاتب… وعلى رأس بعض القطاعات الوزارية.
ومع ذلك كأن مبدأ “الشرعية التاريخية” القديم والذي لم تعد له شروط التحقق، لازال يستمر في نوع من “التقية”… لكنني وأنا أسترجع كل هذا، أستحضر هنا مقولة رجل أحترمه وأحد الوجوه السياسية التي ابتدأت شابة، ولازالت في فكرها، والذي كان ممن أعطوني الثقة شخصيا في الإنخراط في النضال السياسي، أستحضر مقولته، حين صرح لي: ” تريدون أن تكونوا زعماء.. ولكن على من!”… أكيد، وإن ولى زمن الإيديولوجيات الكبرى، فليكون الشاب منا قياديا وينال ثقة واحترام مجايليه وغيرهم، فعليه أن يكون قادرا على لمهم حول فكرة سياسية واضحة. وهنا كذلك نعود لما قلناه قبل عشرين عام كذلك: “ديموقراطية الأفكار”. يجب أن تنبني الديموقراطية على أفكار ومشاريع واضحة قبل أن تترجم بالإستقطاب والترشيح والتصويت…
قبل عشرين عاما كذلك، رأينا الكل يتحدث عن التشغيل الذاتي وروح المبادرة والمقاولة الصغرى والمتوسطة… لكننا بعد أن مرت عشرون عام، نكاد نقول أن وحدهم واضعي هكذا برامج، من اشتغلوا في الكلام والتسويق والظهور أكثر من عدد المشاريع المنتظرة والمتوخاة. فكم ترجم منها على أرض الواقع؟ وكم من المستفيدين من هذه “الفرص” استمرت مشاريعهم؟ وكم وكم؟… أليس هذا في حد ذاته من باب ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أن تألق السياسي وبروزه في الساحة، مرتبط بقدرته على “إطلاق الوهم” و “الوعود الكاذبة”؟
قبل عشرين عاما، صرخنا أن الإنتخابات لا يمكنها أن تكون مرتعا للفاسدين ومن يشترون الذمم. واتفقنا أن الحياة العامة تحتاج إلى تخليق… قبل عشرين عاما، انتبهنا إلى عزوف الشباب عن السياسة. وعدم تصويت عدد كبير من المواطنين في الانتخابات… قبل عشرين عاما، طالبنا أن تكون الكفاءة وحدها معيار اختيار المسؤولين. ثم اكتشفنا أن مفهوم الكفاءة لا يمكنه أن يختزل في سيرة ذاتية، تضم أحسن الديبلومات ومسارا مهنيا محترما. ولابد لمن يمارسون في مهام سياسية بالأساس، أن يتوفروا على الرؤية السياسية الضرورية لتدبير ما يشرفون عليه من قطاعات. ولم نسأم للحظة خلال العشرين عاما المنصرمة، وإلى الآن، من أن نقول أن الثقافة باب أساسي لصيانة هويتنا وقيمنا، من الإنزلاق فريسة للتدجين ثم المحو… ولم نسأم من الإشارة إلى أن ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، الذين يزدادون فقرا مع الأسف، لا يسعفهم في استهلاك المنتوج الثقافي الوطني. فكيف يمكن مع هذا الواقع، إرساء صناعات ثقافية وإبداعية؟ وتلك حكاية أخرى…!!
كاتب و مسرحي*