لأننا عانقنا الصمت، قلنا هي التفاهة وبخسناها أشياءها ونظامها اللعين.. ومضينا نلاحظ وننتظر ونهمس في آذان صماء حينا، وحينا آخر نناقش ونحلل بيننا. لكننا لا نملأ فضاء تأطير وتنشئة الأجيال الشابة، التي تركناها أمام فردانيتها ووحدانيتها تكتشف التطورات التكنولوجية والإستهلاكية الدولية وتغازلها، دون أن يكون لها رصيد قيمي كافي، لمواجهة ما يعتري هكذا تطورات من سلبيات وانزلاقات.
في المقابل ظهر جيل جديد من السياسيين، ألفوا التطبيع مع النفعية المتوحشة والفساد، أناس متوسطوا النظرة والأفكار أو يقتاتون على تفتيت أفكار سياسية أصيلة والمصادرة على المطلوب… يدعون “الخبرة” لأنهم يعرفون ترويض حاسب آلي وملأ استمارة وهيكلة “سيناريو”… لكنهم وهم يتضامنون مع بعضهم البعض، ولهم قدرة “كاستينغ” رهيبة على التعرف على أمثالهم وضمهم إلى شبكة التفاهة العابرة للحدود ونظامها المتين، يواجهون كل الأفكار الجديدة. وأي نفس يمكنه أن يخرج البلاد والعباد من التنميط، ومن الفراغ التام من كل نقاش مجتمعي حقيقي نحو التقدم و النماء.
إذا كانت بعض نظريات العلوم السياسية ومدارسها سارت في اتجاه تسيير المرفق العام بشكل براغماتي، يقارب التدبير المقاولاتي، في مقابل الإدارة البيروقراطية البطيئة الإيقاع وذات مؤشرات الحكامة والنجاعة الضعيفة، فإنه لايمكن بأي حال أن يتم إختزال أية دولة إلى مجرد مقاولة/إدارة لها فريق تسيير ومجلس إداري، بدل حكومة مسؤولة أمام مواطنين أورعايا لهم حقوق وواجبات. الشأن العام أو المصلحة العامة سيان، يحتاجان لتدبيرهما إلى نفس سياسي حقيقي تحكمه رؤى وبرامج عميقة، يتم تنزيلها عبر استراتيجيات حقيقية، وليس فقط شعارات يتم إعادة تدويرها وتترجم عبر مشاريع مساعدة تشجع على التواكل والريع أو تقدم الإغاثة ووهم النجاة للغارقين في العوز وقلة ذات اليد. أما المثقف العضوي فقد اختفى عن الأنظار، وليست له حتى القدرة على تنظيف بيوته الداخلية من ممارسات شعبوية وسياساوية تمارس ما ينتقده نظريا من غياب الديموقراطية.
هي أزمة حقيقية للفكر وبلورة سياسات عمومية حقيقية ونموذج تنموي متفرد، أرادته أعلى سلطة في البلاد نفسا جديدا للممارسة الديموقراطية وللحكامة الجيدة. “لا سياسة بدون سياسيين”. لا يمكننا أن نقول أنه ليست في هذه البلاد المعروفة قديما بأرض الله (أمور ن واكوش) لعجز الإغريق للوصول إليها فأرادت أسطورتهم أن تمة “سحر إفريقي قديم” يحول دون وصول الإغريق إلى حيث يلتقي البرزخين.”هي أرض عصية على الإختراق، فيها تموت الشمس التي كان يعبدها الكثير! وملتقى بحرين وحضارات، شكلت روافد هويتها وأخرى عبرتها”؛ لا يمكن أن نقول أنه ليس في هذه البلاد أياد نظيفة، وقلوب تخفق وفاء للوطن ومقدساته، يمكنها أن تساهم مع بعضها البعض، كل من موقعه، في منح نفس جديد لتدبير الشأن العام. فبقدرما يعرف عهد حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس تطورا حقيقيا على مستوى البنيات التحتية، وعملا كبيرا لتعزيز مكانة الدولة والحضارة المغربية بين دول العالم، بقدرما ينبغي أن يواكب هذا التطور،تطورا في الأداء السياسي وآلياته. وألا نستبيح باسم التقنوقراطية أوحتى الأغلبية فرض رؤى قصيرة المدى لا تعدو أن تكون جرعات مسكنات لمجتمع تنخره الهشاشة وتقهقرت فيه الحريات الفردية والجماعية.
السرعة التي تسير بها المؤسسة الملكية وقدرتها على الاستشراف والإنخراط في التطورات الدولية والماكرو اقتصادية تفوق بكثير ءلحسن الحظء قدرة الحكومة على تنزيل المبادرات والاستراتيجيات التي تطلقها أعلى سلطة في البلاد. ومن جهة أخرى فإن الحكومة ومدبري الشأن العام لا يتواصلون بما فيه الكفاية ويوقعون شرخا وصمتا رهيبا بين الحاكمين والمحكومين. إنه وضع ءإن استمرء يكاد يكون أفضع – لا قدر الله- مما سمي في العهد القديم بالسكتة القلبية. لحسن الحظ فمؤشرات التطور والسير قدما نحو تحقيق النماء والرخاء، غدت واضحة لا ينكرها إلا جاحد، رغم أزمات الجفاف والماء وقلة الترواث في إقتصاد لازال يرتكز لحد كبيرعلى الفلاحة، رغم بروز قطاعات أخرى إلى جانبها.
غير أننا لا يمكننا ان نطرق باب النمو وأهل الفكر ينهجون سياسة الكرسي الفارغ لما طالهم من جحود وتهميش أو يطبلون لكل إنجاز عابر، فقط من أجل مصالح شخصية ضيقة، وأهل السياسة طبعوا مع الفساد ويحتاجون هذه المرة إلى “تنظيف الحياة السياسية” وليس فقط إلى تخليقها. وبين هؤلاء وؤولئك، هناك إعلام يجتر كلاما فضفاضا عن تفاهة ما يروج في مواقع التواصل الإجتماعي والمواقع الفضائحية التي تدعي الصحافة. وهو يخفي عجزه عن ممارسة الإخبار والتقصي حول مكامن الخلل، والإنزلاقات الحقيقية التي يعرفها المجتمع. ولعله متواطئ إن لم يكن ذو مسؤولية كبرى في دعم التفاهة وبروزها، حين منح المنصات لأحاديث تافهة وسجالات عقيمة وغيب الأصوات الغيورة على الوطن وتطوره، ومنح الميكروفونات والكاميرات لأخبار الفضائخ والتشهير، بدل الإشارة للهفوات الحقيقية ولمكامن الفساد وسوء التدبير.
لنشمر على سواعدنا، كل من موقعه، من أجل تنمية حقيقية ومستديمة. ولعل هذا لن يستقيم، وجسور التعاون والتحاور بين القوى الحية للبلاد تعتريها فجوات الصمت وتسكنها الآذان الصماء.