بقلم: زكية لعروسي
لقد استنفدتُ كل حيل قلمي على مدار يومين، محاولاً أن أكتب شيئاً يُلهم أو يثير، وأنا احاول رفع الستار عن مسرحية لم تشهدها خشبة المسرح يوماً؛ مسرحية تحشد فيها عناصر من كل أنواع المسرح، ولكن بلا خشبة، تتألق فيها شخصية غريبة الأطوار، لا تندرج تحت تصنيف الممثلين التقليديين، بل أشبه بأسطورة حديثة تتحدى كل مألوف، تجمع بين عفوية الفوضى ودقة الخداع، بين قوة الدكتاتور وجاذبية البطل المسرحي.
يا قارئي الكريم، “لا تقنط من رحمة الله”، فها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يشير بأسلوبه إلى ظاهرة ترامب، ويقول: “العالم مكوّن من آكلي الأعشاب وآكلي اللحوم. إن قررنا البقاء على العشب، فسوف يفوز أكلة اللحوم. من الأفضل أن نصبح من آكلي كل شيء. لا أريد أن أكون عدوانياً، أريد فقط أن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا.”
إنه مشهد مجازي من مشاهد السياسة يُعبر عن تلك الصراعات، وهو تلميح بليغ لتلك التوترات الجيوسياسية التي أتى بها انتخاب ترامب. وهكذا، يتساءل ماكرون: أليس على أوروبا أن تحجز مكانها وسط هذه الساحة العالمية؟ حرب في أوكرانيا، قصف على غزة، طموحات روسية لا تخمد… القارة العجوز لم يعد يليق بها الانحناء.
مشهد الصراع هذا بين أوروبا بنواياها الطيبة، ولكن دون جدوى، وبين قوى لا تقف أمامها أخلاق أو حدود، أثار فيّ الكثير من التأملات؛ صورة أوروبا العاجزة التي تتنازعها قوى لا تتردد في سحق الأخضر واليابس، بل ولا تمانع في أكل “العشب الأشعت” إن لزم الأمر.
أما الشخصية المحورية في هذا المشهد، يا قارئي العزيز، فهي ترامب، تلك الظاهرة السياسية الفريدة. لم يكن مجرد سياسي عادي يطل من الشاشات، بل أشبه بإعصار هيّج الرأي العام، حتى صار حديث الشارع، من المقاهي إلى المجالس. كان أقرب إلى ظاهرة خالفت التقاليد وحطمت أساليب الخطاب المعتادة، متخذاً لهجة شعبية صادمة، وبأسلوب يخرق الحدود في عالم السياسة كما لو كان أسطورة سياسية تجمع بين خبث الدهاء وجموح الجرأة، يتقن إثارة التناقضات وجذب الأنظار من أزمة إلى أخرى.
وإن أردت التعبير عن تأثيره، فلا أجد أصدق من أمثال أمي التي لا تزال تتردد في ذاكرتي، مثل قولها “فلوسو غسلو كفوسو”، تلميحاً إلى كيف ينظف المال أوساخ السياسة، يفتح لك الأبواب مهما بدت موصدة. وترامب، بماله وذكائه الإعلامي، أجاد غسل “كفوس” السياسة، حتى بات زعيماً شعبياً في نظر بعضهم، متحرراً من أيدي النخب السياسية، وكأنه القائد المخلص الذي يسير تحت حماية شعاراته الرنانة، مستعملاً “غربالاً” يمضي به بلا اكتراث لعيون الرقباء.
ترامب بالفعل شخصية تشبه أبطال الأساطير، وربما يراه البعض “بروميثيوس” هذا العصر، الذي أشعل جذوة التمرد ضد المؤسسات، سرق لغة الشعب وصاغها في خطاب أشعل بها حملته، وكأن النار التي منحها بروميثيوس للبشر تحولت لدى ترامب إلى وقود للأزمات. بيد أن ترامب، على خلاف بروميثيوس، لم يمنح تلك النار ليرفع بها الناس، بل ليستغلها كصاعق يثير التوتر والجدل من حوله.
ويضاف إلى ذلك قناع الزعامة الذي يرتديه ترامب، يقف خلفه بوجه متجهم، كدرع يحصّنه من النقد. إن هذا القناع هو تعبير عن رغبته في رسم صورة القائد الأسطوري المتعالي، المحصّن بالغموض، الذي لا يهزم، كما لو كان بطل ملحمة قديمة يطل علينا بدرع فولاذي يخفي تحته كثيراً من الألغاز.
وفي زمن الإعلام المتسارع، استطاع ترامب أن يجعل من وسائل التواصل مرآته الخاصة، يعكس فيها “صورته الأسطورية” بقوة تضاعف حضوره، تماماً مثل الأبطال الذين كانوا يملكون مرآة تعكس بريقهم وجاذبيتهم، تبهر الجمهور وتكرّس الأسطورة.
فيا أمي العزيزة، يبدو أننا اليوم بحاجة لأمثال جديدة تناسب هذا “النموذج الأسطوري” الذي يمثله ترامب، ذلك الذي يمضي بـ”غربال” شعاراته، لا يبالي بما يرى فيه الآخرون، وكأننا في زمن أصبحت فيه الأصوات أعلى من الأفعال، وعصر “الكلام الذي يبيع ويشتري”. أليس هذا فعلاً زمن الغرابة السياسية، حيث المال والنفوذ هما خشبة المسرح، ونحن مجرد جمهور مسلوب الحيلة، لا يملك سوى أن يتسلح بالصبر، كما نقول: “الصبر حيلة من لا حيلة له”.
وفي الختام، يا قارئي العزيز، لا بد من الاعتراف بأن ترامب يُجسد هذا الصراع بين الحقيقة والخداع، بين الزعامة الحقيقية والقناع المصطنع، يجعلنا نتساءل: هل السياسة باتت مسرحاً؟ وهل المال، كما في مثلنا القديم، هو فعلاً من “يغسل الكفوف والكفوس” ويزيّن الوجوه بقناع البطولة الزائفة في مثل هذه المسرحيات؟