صور شخصية منسية: الكراب

في يومنا الحالي أصبح الرجل صورة فلكلورية وبدأ يتسلل النسيان شيئا فشيأ ليمحي أثره. وضع في كارت بوسطال جميلة وهو يبتسم لإندثاره ووضعه كتحفة تمثل ذلك المغرب الذي يبدل جلده بسرعة. لم نعد نسمع صوت الناقوس المميز بين الممرات الضيقة للأسواق الشعبية حيث تختلط الأصوات بالغبار. بلباسه الأحمر وقربته، التي يبرز رأسها في إطلالة دائمة على الكوب النحاسي، والذي يبرق كلما استقبل أشعة الشمس في تحد دائم لحرارته، يدرع الرجل جيئة وذهابا في بحث دائم عن شفاه غلبها العطش.

الرجل ذو القبعة المزركشة وقد غطى قربته بقطعة جلد سميكة وقد زينت بالعديد من النقود القديمة، والتي لم تعد مستعملة، بل أصبحت في قيد النسيان بعدما عفى عنها الزمن وإشارة لأثر الغنى المحتوم بالزوال. يمشي الرجل بين الجموع الغفيرة مثل الطاووس وهو في أبهى حلة. يحرك ناقوسة بحركة مضبوطة كي يصدر هذا الصوت الأثيري القادم من أعماق أزمنة سحيقة. مهنة ارتبطت بالماء وقلبت تلك المعادلة الأولى والتي تستدعي ذهاب الناس إلى النبع من أجل إرواء عطشهم. هاهو الكراب يتحول إلى عين ماء متحركة، يمدك بكوب الماء وعطر القطران يتصاعد مع كل جرعة ماء. كيف لهذا الماء كل الأثر الغريب على النفس، وكيف أصبح هذا الرجل الغريب في لباسه الأحمر وتعدد الألوان حوله وبريق النقود التي يلمعها صباح مساء يختطف أنظار الأطفال بالخصوص، والذين يجبرون أمهاتهم على دفع ثمن الكوب رغم عدم العطش ولكن رغبة في استنشاق تلك الرائحة والنظر في قاع الكأس ليروا وجوههم المشتعلة، ولكي يطفئوا نار الفضول بالنظر عن قرب في وجه هذا الرجل الذي ينتمي إلى قارات بعيدة.

لهذا الرجل ذو القربة نوع من السحر والفرجة، كما لو أن لباسه ماهو إلا رغبة حقيقية ليشارك في كرنفال لامرئي، وحده مدعو ليقطع الطرقات ويتباهي بهذه الأقنعة الكرنفالية كي يمسح عن الشارع ذلك العبوس اليومي. يفرح الأطفال المجبرين لمرافقة أمهاتهم وحمل ما ثقل على كاهل أقربائهم. في تلك اللحظة التي يمدون أيديهم للكأس ينفتح أمامهم مسرح سري مسربل برائحة غريبة ومفعم بالسفر بعيدا عن ضوضاء السوق.

لم نعد نسمع قرع الناقوس إلا لماما ، كما لو أنه تعب من لفت الإنتباه إليه من رجال ونساء تخطفتهم الحياة الجديدة. لم يعد العطش يجبرهم للبحث عن مصدر الصوت. الماء معلب في القنينات رهن إشارة العابرين. الآن لم تبق غير تلك الصورة في بلد لم يعد يتعرف على نفسه في وجه مثل هذا الرجل.
عليه الآن أن ينسى وهم الكرنفال ليلتحق بصورة فلكلورية لزمن مضى من مغربنا الأقصى.