
إعداد: محمد خوخشاني

تُعد العلاقات المغربية-البلجيكية من أقدم العلاقات الثنائية في أوروبا الغربية مع العالم العربي، إذ تعود جذورها إلى سنة 1862، تاريخ توقيع أول اتفاق رسمي بين الجانبين في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن والملك ليوبولد الأول. ومنذ ذلك التاريخ، نسج البلدان علاقات متينة اعتمدت على الاحترام المتبادل، والحوار السياسي الهادئ، والتعاون الاقتصادي والاجتماعي المتزايد.
ومع مرور الزمن، توسعت الشراكات بين الرباط وبروكسيل لتشمل مجالات التجارة، والهجرة، والتعليم، والتعاون الأمني والقضائي، إضافة إلى العلاقات الإنسانية الواسعة التي كرستها الجالية المغربية المقيمة ببلجيكا والتي أصبحت جسراً استراتيجياً بين البلدين.
اليوم، ومع إعلان بلجيكا موقفها الجديد بشأن قضية الصحراء المغربية، تتجه العلاقات الثنائية نحو مرحلة جديدة تحمل ملامح شراكة استراتيجية معمّقة تتجاوز الإطار التقليدي للتعاون.
تحول دبلوماسي لافت: موقف بلجيكا الجديد حول الصحراء المغربية
شهد يوم 02 دجنبر 2025 محطة بارزة في مسار العلاقات المغربية-البلجيكية، حيث أكد نائب الوزير الأول ووزير الخارجية البلجيكي ماكسيم بريفو، خلال اجتماع لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب البلجيكي، التزام بلاده بالتصرف وفق موقفها الجديد بخصوص الصحراء المغربية، سواء على المستوى الدبلوماسي أو الاقتصادي.
هذا الموقف يأتي متناغماً مع التصريح المشترك الصادر خلال لقاء وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة ونظيره البلجيكي بتاريخ 23 أكتوبر 2025، والذي شكّل منعطفاً دبلوماسياً واضحاً في مقاربة بلجيكا لهذا الملف.
أولاً: القنصلية البلجيكية في الرباط… خدمات دون تمييز، تشمل الأقاليم الجنوبية
حرص نائب الوزير الأول البلجيكي على التأكيد بأن القنصلية العامة لبلجيكا بالرباط تشتغل على كامل التراب المغربي دون أي تمييز جهوي، بما في ذلك الأقاليم الجنوبية.
وأكد المسؤول البلجيكي:
● أن البلجيكيين المقيمين في جهة الصحراء مسجلون بشكل عادي
● ويستفيدون من الخدمات والمساعدة القنصلية أسوة بكل المقيمين في باقي جهات المملكة
● وأن المساعدة القنصلية تقدم كذلك للبلجيكيين الزائرين للمنطقة
● ويُظهر هذا الموقف اعترافاً عملياً باندماج الأقاليم الجنوبية ضمن الدينامية المؤسساتية المغربية.
ثانياً: تنفيذ الالتزامات الثنائية: زيارات، منتديات، ومبادرات اقتصادية
شدد بريفو على أنه سيعمل خلال الأسابيع المقبلة على التفعيل الكامل للالتزامات التي تعهدت بها بلجيكا ضمن الاتفاق السياسي الموقع يوم 23 أكتوبر 2025.
ومن بين الإجراءات المعلنة:
1. زيارة مرتقبة للسفير البلجيكي إلى الأقاليم الجنوبية
بهدف إعداد أو دعم جملة من المبادرات الاقتصادية، أهمها:
زيارة شركات بلجيكية للمناطق الجنوبية
تنظيم منتديات اقتصادية مشتركة
دراسة تنظيم بعثات اقتصادية تضم الوكالات الثلاث الإقليمية البلجيكية
2. التحضير لزيارة حكومية رفيعة المستوى إلى المغرب
من المنتظر أن تتم خلال ربيع 2026، وستتمحور حول تنزيل الاتفاق الثنائي الجديد.
3. التحضير لزيارة دولة على أعلى مستوى
حيث تعمل بروكسيل والرباط على تنظيم زيارة ملكية رفيعة المستوى خلال الولاية التشريعية الحالية، وهي إشارة قوية إلى عمق الروابط السياسية بين البلدين.
ثالثاً: اتفاق سياسي يؤسس لشراكة استراتيجية أوسع
وصف نائب الوزير الأول البلجيكي الاتفاق السياسي الموقع في أكتوبر بأنه خطوة مهمة في بناء شراكة استراتيجية بين المملكتين، تقوم على:
● الروابط الاقتصادية والإنسانية والثقافية
● تعزيز الحوار حول القضايا الأمنية
● تحديث التعاون القضائي
● تطوير التعاون في مجال الهجرة
● مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال
كما يسمح الاتفاق للشركات البلجيكية باستكشاف فرص اقتصادية جديدة في المغرب، خصوصاً في الطاقات المتجددة، والصناعات الخضراء، والهيدروجين الأخضر، والموانئ الأطلسية.
رابعاً: دعم واضح وصريح للحكم الذاتي
جدد ماكسيم بريفو تأكيد دعم بلجيكا لمبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007، واعتبرها:
“الأساس الأكثر ملاءمة وجدية ومصداقية وواقعية لإيجاد حل سياسي دائم ومقبول من جميع الأطراف”
(وفق قرارات مجلس الأمن)
وبيّن أن المبادرة المغربية تُدرج جهة الصحراء في إطار سيادة المملكة ووحدتها الترابية، وهو ما يجعلها من منظور بلجيكي الحل الأكثر قابلية للتنفيذ والاستقرار.
خاتمة: نحو مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات المغربية-البلجيكية
منذ أكثر من 160 عاماً، نسج المغرب وبلجيكا علاقات دبلوماسية واقتصادية وإنسانية ممتدة.
أما اليوم، ومع تبني بلجيكا موقفاً واضحاً مؤيداً للمخطط المغربي للحكم الذاتي، فإن العلاقات الثنائية تدشن منعطفاً جديداً يؤسس لشراكة تزداد عمقاً وتوازناً.
إن التأكيد على:
● وحدة التراب المغربي
● دعم الحكم الذاتي
● تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني
● تنظيم زيارات رفيعة المستوى
● دمج الأقاليم الجنوبية ضمن المبادرات الاقتصادية
كلها مؤشرات تُبرز أن العلاقات المغربية البلجيكية تدخل مرحلة النضج الاستراتيجي، حيث تتقاطع المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية للبلدين بشكل غير مسبوق.
وهكذا، يبدو أن سنة 2025 تشكل بداية حقبة جديدة في مسار العلاقات بين المملكتين، قائمة على وضوح الرؤية وقوة الشراكة وعمق الاحترام المتبادل.


