
بقلم: زكية لعروسي

في زمن أصبحت فيه ماركات الملابس رمزا للانتماء الطبقي، تحوّلت الشهادات الجامعية إلى عُلب مصنّعة، تشترى وتقدّم كما يُقدَّم عطر فاخر في حفلات الاستعراض، لا كما تنحت بالكدح في مختبرات المعرفة. لم تعد الدكتوراه عنوان اجتهاد علمي أو تتويجا لمسيرة فكر، بل قطعة أثاث توضع على الرفّ، كأنها إكسسوار فاخر لبرستيج اجتماعي هشّ. هذا ليس مجازا، بل واقعا يعرفه الجميع ويهمس به في ردهات الجامعات، وفي مقاهي الطلبة، وفي سرر الأساتذة الذين تواطأ بعضهم بالصمت، وشارك بعضهم الآخر بالفعل.
لقد “انحل العقل” فعلا.. ولم يعد للعقل سلطان.
أصبحت شهادة الدكتوراه في بعض الحالات لا تختلف عن “كموسة ديال الفلوس”، تسلّم مقابل صفقة مالية أو مجاملة أو حتى مقابل الجسد، كما جرى وتكرّر بفظاعة. أما البحث العلمي، فله أن ينتظر… أو ينقل بـ”نسخ لصق” من أطروحة قديمة، أو يسرق من مقال مترجم. اختزلت سنين الجدّ في أطروحات تكتب في مكاتب الظلّ، أو تسجّل فقط من أجل اللقب الاجتماعي والوظيفة المضمونة.
والمُفارقة الكبرى؟ أن هذا أصبح معروفا. ومقبولًا ضمنيًا. كأنّ الجميع ينتظر لحظة “انفجار الدّليعة”.
من المسؤول؟ وزارة التعليم؟ الإدارات الجامعية؟ الأساتذة؟ أم هذا الصمت العام الذي يختبئ خلف “الأوميرطا”؟ الواقع أن المسؤولية منقسمة بفظاعة. فالمؤسسات التي تبارك هذا التهافت، والأساتذة الذين يوقّعون دون قراءة، والإدارات التي تتواطأ، والوزارة التي تغض الطرف… كلهم أطراف في انهيار البنية الأكاديمية.
إنه ليس فقط فسادا تعليميا، بل انهيارا مجتمعيا. فحين تصبح المعرفة سلعة للتزيين، تسقط الأمة في براثن الزيف. وهذا الخطر لا ينحصر في مسألة “تزوير دبلومات”، كما جاء في التحقيق الفرنسي، بل يتجذّر في سياقنا المحلي، حيث تتحوّل الجامعة إلى سوق رمزية للمكانة، لا ورشة فكرية لصناعة التغيير.
فأيّة حكمة بقيت؟ وأين ضمائر من كنّا ننتظر منهم أن يكونوا الحصن الأخير؟
كيف يعقل أن نصدّق طالبا “نابغا” في الخوارزميات، بينما أطروحته مسروقة، ومشواره الأكاديمي مبني على مجاملات فارغة؟
نحن اليوم لا نواجه مجرد “تزوير شهادات”، بل تزوير وعي. بل إن المنحدر يزداد انحدارا: من “النقاط مقابل الجسد” إلى “الدكتوراه مقابل المال”، إلى الأستاذ الجامعي الذي لا يكتب حرفا ويلقّب بـ“باحث“.
أليس من المثير للسخرية أن نحلم بدكتوراه في الرياضيات، بينما لا نمتلك قاعدة بيانات موثوقة للرسائل الجامعية؟ أن نحلم بأساتذة جامعيين يربّون أجيالا، بينما هم أنفسهم نتاج خيانات علمية ممنهجة؟
نعم، هذا زمن يتوارى فيه الغزالي، وتبقى منه صورة باهتة، يجاورها الخنزير، والكلب، والشيطان، كما في تمثيلات الرمز الصوفي حين يحترق العقل ويضيع النور.
متى نقرّ، بصوت مرتفع هذه المرة، أن العطب ليس في الطلبة فقط، بل فينا؟ في كل من صمت، تواطأ، سهّل، واستفاد من سوق الشهادات المغشوشة.
يا وزارة التعليم، هذا ليس مقالا، بل نداء. لن نلوم بعدها من يحلم بمغادرة هذا المركب الغارق. فالشهادة لم تعد حلما، بل قناعا والجامعة لم تعد منارة، بل فاترينة تعرض فيها ألقاب مغشوشة في علب براقة. فهل نبقى في صمتنا أم نعلنها ثورة على الزيف؟ وإن لم تكن الجامعة قادرة على تصحيح مسارها، فكيف ستصلح وطنا بأكمله؟


