أخبارفي الصميممجتمع

دبلومات في علب: متى نصنع تعليما يغني عن الهروب، ويستحق الاحترام بلا جواز سفر؟

بقلم: زكية لعروسي

في تقاريرها الأخيرة، كشفت المؤسسة الوطنية الفرنسية للإحصاء (Insee) عن معطى لافت: عدد المهاجرين القادمين إلى فرنسا من القارة الإفريقية في تزايد مستمر، ومعه ارتفعت نسبة الحاصلين منهم على شهادات عليا. هذا التحول في ملامح الهجرة قد يبدو، ظاهريا، دليلا على “نهضة تعليمية” في الضفة الجنوبية للمتوسط. غير أن الأرقام تخفي مأزقا أعمق وأكثر إرباكا.

الجزء الأهم في تقرير Insee لا يكمن في عدد الشهادات، بل في مصير أصحابها: نسبة كبيرة من هؤلاء “المتعلمين” ينتهون في وظائف لا تليق بمستواهم الأكاديمي. البعض يعمل في مهن يدوية، والبعض الآخر في خدمات بسيطة، رغم امتلاكهم دبلومات عليا. لماذا؟

الجواب لا يتعلق فقط بالعنصرية المؤسساتية أو رفض الاعتراف بالشهادات الأجنبية، بل يرتبط بجودة هذه الشهادات نفسها.

في المغرب، مثلا، تحوّلت الدبلومات الجامعية إلى ما يشبه “المنتجات القابلة للتصدير”، تمنح بالجملة، وتغلّف في علب فاخرة لترسل إلى أوروبا، حيث يتوقع حاملها أن تفتح له الأبواب كما يفتح صندوق الكنز. لكن الواقع مختلف تماما: “علبة الشهادة” فارغة من الداخل، تفتقر إلى مضمون معرفي صلب، إلى كفاءة قابلة للقياس أو التوظيف.

والأدهى من ذلك، أن كثيرا من هذه الشهادات لا تستند إلى حضور فعلي أو تكوين جاد. أي ماستر لا يستدعي حضورا يوميا صارما هو، ببساطة، شهادة مشكوك في جديتها. أين التفتيش؟ أين المراقبة الإدارية؟ لقد انفجرت المنظومة منذ سنوات، وصرنا نشهد فضائح متتالية، من ضمنها ما يعرفه الجميع في مدن كأكادير وغيرها. لا نريد أن يضحّى بأستاذ أو حالة ليكون “كبش فداء”، بل نريد تطهيرا شاملا للمنظومة، ومحاسبة لا تستثني أحدا.

لقد عشنا هذه المهازل، وفتحنا أعيننا على أناس نعرفهم شخصيا، نالوا الشهادات دون تعب، ثم ركبوا الطائرة نحو “الفرصة” الأوروبية. لكن أوروبا لا تعترف بديكور المعرفة، بل تطلب كفاءة عملية. وهناك، تتفكك العلبة، ويظهر الفراغ.

مثلما كانت تقول أمي خيرة: “اللي ما فدارهم زاد، ما يعمر دار الناس.” كيف ننتظر من عقول لم تملأ في بلادها أن تضيء في بلاد الآخرين؟ الشهادة ليست جواز سفر نحو النجاح، بل التكوين هو الجسر الحقيقي.

إذا كانت هذه “الزيادة” في عدد حاملي الشهادات بين المهاجرين مرتبطة، ولو جزئيا، بتزوير أو تضخيم مفتعل في منح الدبلومات، فنحن أمام قنبلة اجتماعية موقوتة. ما يُصدّر إلى أوروبا ليس فقط مهاجرا متعلما، بل في كثير من الحالات واجهة تعليمية مغشوشة، تتستر خلفها دولة عاجزة عن تقييم نفسها، وجامعات تخرّج بالأرقام لا بالمعايير.

تزوير الشهادات، أو التساهل المزمن في منحها، هو خيانة ثلاثية: خيانة للطالب الذي يُخدع بحصانة وهمية، خيانة للمجتمع الذي يعوّل على كفاءات مزيفة، وخيانة للوطن الذي سيحاسب عندما تكشف المهزلة أمام العالم.

إذا استمر الأمر بهذا الشكل، فإننا لا نصدّر “عقولا مهاجرة”، بل نُهرّب وهما مطبوعا على ورق مصقول. أوروبا ستكشف الكذبة، وسوق العمل سيفضح الجميع، ولن يبقى في النهاية سوى السؤال الموجع: متى نصنع تعليما يغني عن الهروب، ويستحق الاحترام بلا جواز سفر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci