بقلم: زكية لعروسي

“الله يرحم زمان كان رمضان رمضان!”، عبارة يرددها الكبار بحسرة، وكأنهم ينعون شهرا لم يعد كما كان. أين ذهبت بساطة الموائد؟ أين روح التآزر والسكينة؟ أين القلوب التي كانت تخشع والأنفس التي كانت تتطهر؟ اليوم، لا حديث إلا عن “الفِيش” والاستهلاك الهستيري، وكأن رمضان صار موسما للتكديس لا للتقديس!
قديما، كان الجوع واحدا، والزاد مشتركا، والناس يرسلون صحون الخير بين البيوت، فيتحقق المعنى الحقيقي للصيام: التخفف من الدنيا ومواساة المحتاج. أما اليوم، فالجار نسي الجار، والجوعى يسألون الله الفرج، فيما الموائد تتفجر و” تتشقلب” بما يكفي لقرية كاملة، والبطون تتثاقل، لكن اين الجار؟ جار “عليه العوض” كما يقول إخواننا المصريون. فإنه قد لا يجد ما يسد رمقه، بينما أكياس التخزين تتكدس في البيوت وكأن الأسواق ستُقفل أبوابها!
أتُرانا نسينا أن رمضان شهر الصيام لا شهر التخمة؟ ألم يقل المصطفى (ص): “ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه”؟ لكننا، ويا للعجب، جعلنا من الشهر الذي يُفترض أن نكون فيه أقرب إلى التراب، موسما لنكون فيه أقرب إلى الامتلاء “كول ومرق على جارك”
نرى اليوم كيف يتحول الإفطار إلى سباق مفتوح بين المأكولات، وكأن الناس يثأرون لأنفسهم مما فاتهم في النهار. من فطائر محشوة بألف نوع من القشطة، إلى مشروبات محلاة لا يعرف السكر لها حدا، إلى مائدة تضج بما يكفي عشرة أسر، ثم بعد كل ذلك، شكاوى من التخمة وعسر الهضم وكأننا لم نكن نعرف أن المعدة لها حدود!
إذا كان الجوع نهارا يجعلنا نحس بالفقراء، فهل الشراهة ليلا تُنسيهم جوعهم؟ “اللي ما شبع في نهاره، ما يشبع في ليله”، وهل “الفِيش” وتعويض ساعات الإمساك بموائد مكدسة يُعيد لنا روحانية هذا الشهر؟
رمضان الذي كان مدرسة للصبر، صار اليوم موسما لامتحان قدرة المعدة على التحمل!
ليس الطعام وحده ما خرج عن حدّه، بل حتى اللباس صار جزءا من الاستعراض.
أما النساء، فحدث ولا حرج! لم يعد همّهن فقط “ما سنأكل اليوم؟”، بل تجاوزن ذلك إلى: “ما الذي سأرتديه في العشاء الفاخر الليلة؟” هذا قفطان ليلة 15، وهذه جلابية ليلة 27، وهذا حذاء العيد الذي لن يُلبس إلا مرة، وكأن شهر التوبة صار موسم الأزياء!
قديما، كان الناس يلبسون الجديد يوم العيد، لكن دون تكلف، وكانوا يدخرون المال للصدقات بدل أن ينفقوه في “لوك” فاخر لليلة واحدة. أما اليوم، فالمظاهر هي الحاكم بأمرها، وكأن من لا يُغير ملابسه في كل ليلة رمضانية، قد أخلّ بشرط الصيام! تناسى البعض أن “الكفن ما فيه جيوب”… فلماذا كل هذا الترف؟
لقد توسّع مفهوم “الفِيش” حتى لم يعد يقتصر على المعدة والملابس، بل صار استعراضا للمجوهرات “كم غراما من الذهب يناسب قفطان هذه السهرة؟”، وكل ما يمكن نشره على “إنستغرام”! هل هو جهل ما بعده جهل، أم ثقافة استهلاك مدروسة بعناية؟
في زحمة الأطباق المتراكمة، والملابس المتغيرة، وسباق الذهب والاكسسوارات، نسي البعض، يا قارئي الكريم، أن رمضان هو شهر الاختبار لا الاستعراض، شهر التخفف لا التباهي. هو فرصة سنوية نزرع فيها الخير ونحصد القرب من الله. ولا موسم عروض ترويجية فهنيئا لمن جعل منه موسما للتوبة، والعبادة وويل لمن جعله مهرجانا للشهوات، والإسراف! “اللي ما يزرع الخير، يحصد الندامة” لنعد يا قارئي، إلى جوهر رمضان، ولنترك ما سوى ذلك، قبل أن يأتي يوم نقول فيه مثل امهاتنا: “كان رمضان رمضان… يا حسرتاه!”