على صدر أم كلثوم

بقلم: عبد الدين حمروش

 

أذكر حكاية، حدثث لأم كلثوم مع شاعر الحمراء، مذ كنت يافعا. لا يسألني أحد عن مدى صدقيتها. الجميل فيها طرافتها، بالإحالة إلى شخصية محمد بن إبراهيم المرحة، ذات البديهة الحاضرة، في كل سياق وحين. الحكاية تلخص لقاء الشاعر بسيدة الطرب العربي، حين سلم عليها، مصوبا بصره نحو الطائرة، التي كانت تتدلى، عبر خيط سلسلة، على صدرها. هل أعجبتك الطائرة على عنقي، سألته أم كلثوم؟ لا، أعجبني المطار الذي تحط فيه، بدهها الشاعر بجوابه. على الرغم مما في الرد من جرأة، ظل يعرف بها الرجل، إلا أن أم كلثوم تجاوزتها بابتسامة خفيفة، تاركة جوا من النكتة يرين على المكان.

هل وقعت الواقعة؟ هل ما حكي صحيح في تفاصيله؟ لا يهم. ومع ذلك، فالنكتة تعبر عن روح الشاعر المرحة، بالنسبة إلى من يعرف سيرته وتاريخه. ولعل من شأن ذلك أن يترجم بعض ما كان يجري في أثناء لقاءات المراكشي مع المشارقة، في المغرب كما في الخارج، وبالتحديد في مصر التي زارها. ربما الحكاية، التي ما زلت أحتفظ بها، منذ زمن بعيد، ليست لها صلة بالواقع أصلا. ليس كل ما يحكى، ولو في بعض تفاصيله، ينبغي أن يكون حقيقيا. الطرافة والبداهة قد تفرضان، في بعض الأحيان، نفسيهما على واقعية الأشياء.

اليوم، حطت طائرة أم كلثوم بمطار پاري- أورلي. غير أن الطائرة ذاتها انتقلت، هذه المرة، من صدر إلى صدر: من سيدة الطرب إلى شرطية الجمارك. بالجرأة ذاتها، وأنا أسلم جواز سفري، أمعنت النظر في صدر الشرطية، مدققا في الطائرة المسترخية بجناحيها فوق مدرج استراتيجي، بين نهدين كبيرين نافرين. طائرة أم كلثوم ، التي تتدثر بخريطة المغرب كاملة، معروضة أمام جميع المسافرين، فرنسيين ومغاربة وجزائريين وتونسيين، وغيرهم من شعوب العالم السائحة. هل كان بالإمكان، من قبل، أن تعلق شرطية فرنسية، حتى ولو كانت من أصول مغربية، خريطة تشمل الأقاليم الصحراوية على صدرها؟ ولو لم يكن بقصد العرض والإشهار، أمام الملإ المختلف في جنسياته، فلعلها كانت انحدرت بالرسم المعدني أسفل النهدين. الشرطية، بوضع ذلك الرسم، الذي هو عبارة عن خريطة المغرب، إنما أرادت الإعلان عن موقف سياسي معين. ليس في ذلك أي سجال.

الشرطية “بنت سباتة”. أصول عائلتها من هناك بالأحرى. تماما، مثل وزيرة الثقافة الفرنسية الأخرى. من أين جاءت بتلك السلسلة المعدنية؟ بل من أين جاءت بتلك الجرأة، وهي الفرنسية، الشرطية، التي لا صلة مباشرة لها بالمغرب. في الواقع، المغاربة، والمشارقة، أيضا، وهم يهربون من أوطانهم إلى بلدان المهجر، حتى وإن ألفيناهم يلعنون الأصول التي جاؤوا منها، لا يفتؤون أن يعودوا إلى أصولهم تلك بأفئدتهم. إحساس متناقض غريب. البلاد التي تؤويني، وتفتح لي بابا إلى المستقبل و الاستقرار، حتى ولو كانت “بلاد الكفار”، هي بلادي (يصرخون في لحظة وعي شقي). وعلى الرغم من لحظة الوعي هذه، إلا أن واقع المشاعر سرعان ما كان يقلب الطاولة على كل الحقائق. المغاربة والمشارقة، وحتى في أقصى لحظات اليأس من أوطانهم، لا يستطيعون أن يكفروا بأصولهم كفرا مطلقا.

ما من شك في أن الانفراج، الحاصل في الموقف الفرنسي، سمح بإعلان شرطية الجمارك عن موقفها. ما كان طي الصدور، قبل حين، أضحى فوق الصدور. الجميع يستسلمون لشرطية الجمارك، ومن على صدرها قد أقلعت أغنية:

يا حبيبي طاب الهوى ما علينا
لو حملنا الأيام في راحتينا.