في آداب الملك والملوك عند الجاحظ (الجزء الثاني)… الدخول على الملوك

بقلم: زكية لعروسي

إن لتربع العرش، والجلوس على كرسي الملك، قواعد دقيقة وأحكام راسخة لا يدركها إلا أولئك الذين رزقهم الله الحكمة ورجاحة العقل. فالملك، ليس مقامًا يُنال بالوراثة فحسب، بل هو مسؤولية عظيمة تتطلب فهمًا عميقًا لقواعد التعامل، وآداب الدخول والخروج، والكلام والجلوس. إنه علم له أصوله وأدبياته، لا يتقنه إلا من زاد علمًا وحكمةً وصبرًا.

إن الدخول إلى مجالس الملوك ليس أمرًا عشوائيًا أو مجرد لقاء عابر، بل هو فعل له ضوابطه، ونظام يلتزم به الداخلون، سواء كانوا من العامة أو من أهل الشرف والطبقات الرفيعة. ولذا فإن الجاحظ، في حكمته البالغة ودرايته العميقة، بيّن لنا كيف يكون الدخول على الملوك، وما يقتضيه المقام من وقار وحذر.

فالداخلون على الملك طبقات حسب الجاحظ، سأكتفي في هذه المادة بالحديث عن طبقة الأشراف، ثم طبقة الاوساط.

2- دخول الأشراف على الملك

في دخول الاشراف على الملك يقول مولانا الجاحظ:

” إن كان الداخل من الأشراف والطبقة العالية، فمن حق الملك أن يقف منه بالموضع الذي لا ينأى عنه، ولا يقرب منه، وأن يسلم عليه قائماً. فإن استدناه، قرب منه، فأكب على أطرافه يقبلها، ثم تنحى عنه قائماً، حتى يقف في مرتبة مثله. فإن أومأ إليه بالقعود، قعد. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة. وإن سكت، نهض من ساعته، قبل أن يتمكن به مجلسه بغير تسليمٍ ثانٍ، ولا انتظار أمرٍ.”

يوضح لنا الجاحظ أنَّ إذا كان الداخل من الأشراف وأصحاب المكانة الرفيعة، حق أن يُحاط الملك بالاحترام المهيب، فلا يقترب الداخل منه اقتراب من لا يعرف الفوارق، ولا يبتعد عنه ابتعاد من يجهل هيبة المكان. عليه أن يقف في المسافة التي تحفظ جلال الملك وكرامته، مسافة تليق بمقام الشريف ومهابة العرش. يُلقي التحية وهو قائم، متيقظ لمقامه العالي.

فإن أشار له الملك بالتقرب، دنا بخطواتٍ مدروسة، ثم انحنى ليقبل أطراف الملك احترامًا وتبجيلاً، ثم يتراجع واقفًا في المكان الذي يناسب مكانته بين الناس. وإن أمره الملك بالجلوس، جلس بوقار، عارفًا أن كل حركة في حضرة الملوك لها ميزان. فإذا خاطبه الملك، أجابه بصوتٍ منخفض، وحركة قليلة، تعبيرًا عن خضوعه للهيبة، وحفاظًا على النظام.

وإن لاذ الملك بالصمت، وجب على الداخل أن يقوم فورًا، دون تردد أو تباطؤ، مغادرًا المكان قبل أن يأخذ مجلسه بشكل دائم، فلا حاجة لتسليم ثانٍ ولا انتظار لأمرٍ آخر. إنما هو مجلس عز ومهابة، تلتزم فيه كل حركة بتوجيهٍ وإذن، ويُطاع فيه الملك طاعة الرضى والتبجيل، لا التردد أو الانتظار.

من هنا، تتضح لنا فلسفة الجاحظ ان الدخول إلى مجلس الملوك ليس أمرًا يمكن التعامل معه بخفة أو تسرع. إنه يتطلب فهمًا عميقًا لآداب الملوك، حيث أن كل حركة أو كلمة لها دلالتها، وكل تصرف يجب أن يكون مدروسًا. إن الملوك، في مجالسهم، لا يحتاجون لمن يُثقل عليهم بالحديث أو يطيل في حضوره دون حاجة. فهم يقدرون الصمت، ويحترمون من يعرف حدوده.

2- دخول الأوساط على الملك

يقول الجاحظ في دخول الأوساط عند الملك

2- “وإن كان الداخل من الطبقة الوسطى، فمن حق الملك، إذا رآه، أن يقف، وإن كان نائياً عنه. فإن استدناه، دنا خطى ثلاثاً أو نحوها، ثم وقف أيضاً. فإن استدناه، دنا نحواً من دنوه الأول، ولا ينظر إلى تعب الملك في إشارة أو تحريك جارحة؛ فإن ذلك، وإن كان فيه على الملك معاناة، فهو من حقه وتعظيمه. وإن كان دخوله عليه من الباب الأول الذي يقابل وجه الملك ويحاذيه – وكان له طريق عن يمينه أو شماله – عدل نحو الطريق الذي لا يقابله فيه بوجهه، ثم انحرف نحو مجلس الملك، فسلم قائماً ملاحظاً للملك. فإن سكت عنه، انصرف راجعاً من غير سلام ولا كلام؛ وإن استداناه، دنا خطى وهو مطرق، ثم رفع رأسه. فإن استدناه، دنا خطى أيضاً ثم رفع رأسه حتى إذا أمسك الملك عن إشارة أو حركةٍ، وقف في ذلك الموضع الذي يقطع الملك فيه إشارته، قائماً. فإن أومأ إليه بالقعود، قعد مقعياً أو جاثياً. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة، وحسن استماع. فإذا قطع الملك كلامه، قام فرجع القهقرى. فإن أمكنه أن يستتر عن وجهه بجدارٍ أو مسلكٍ لا يحاذيه إذا ولى، مشى كيف شاء.”

إن النص الثاني الذي بين أيدينا يكشف عن نظام صارم، وآداب دقيقة تحكم العلاقة بين الملوك ومن يدخلون عليهم من عامة الناس أو من الطبقة الوسطى. فنجد أن الجاحظ يرسم صورة دقيقة للكيفية التي يجب أن يتعامل بها الفرد مع الملوك، مراعياً الدقة في الحركة والكلام، والوقار في السلوك. عندما يدخل الرجل من الطبقة الوسطى إلى حضرة الملك، فإنه لا يدخل دخول العامة، ولا يقف حيثما شاء، بل لكل خطوة من خطواته حكمةٌ ووقارٌ يلزم بهما نفسه. فمن حق الملك أن يرى الداخل عن بُعد، فلا يتقدم نحوه إلا بإشارة، ولا يتجرأ على الاقتراب حتى يؤذن له. وإن سمح له بالتقدم، تقدم بخطى محسوبة، وقلبٌ مفعم بالهيبة. فإذا قرب، وقف مرةً أخرى متريثاً، منتظراً مزيدًا من التوجيهات، غير ملتفتٍ إلى ما قد يعانيه الملك من إشارة أو حركة، فإن كل ما يطلبه الملك هو من حقه الواجب، فلا يتذمر الداخل من تكلف الملك لمخاطبته.

وإذا كان الدخول على الملك من مدخلٍ يقابل وجهه مباشرة، فعلى الداخل أن ينحرف إلى الجهة التي لا تضعه في مواجهةٍ مباشرة مع الملك، ثم يتقدم بخطواته بعناية، ويلقي التحية وهو واقف، متيقظًا لكل حركة تصدر من سيد الموقف. فإن سكت الملك ولم يُصدر إشارة أو توجيه، فعلى الداخل أن ينصرف دون أن يسلم مجددًا أو ينتظر إذنًا بالكلام، فهو في حضرة من يكفي سكوته ليكون جوابًا شافيًا.

أما إذا أشار له الملك بالاقتراب، فعليه أن يخطو بحذر، مطرقًا رأسه تواضعًا وخشوعًا. ثم، مع كل إشارة جديدة، يقترب خطوةً بعد خطوة، رافعًا رأسه عند الإشارة الأخيرة، حتى يقف في الموضع الذي تتوقف عنده إشارات الملك. وإذا أمره الملك بالجلوس، جلس متواضعًا، مقعياً أو جاثياً، في وضع استعداد للاستماع والتأمل في حديث الملك.

وحين يبدأ الملك بالكلام، يجب على الداخل أن يرد عليه بصوتٍ خفيض، وحركاتٍ هادئة، مع إحساس عميق بواجب الاستماع الكامل. فإذا انتهى الملك من حديثه، يقوم الداخل فورًا، ويتراجع بخطوات ثابتة إلى الخلف، دون أن يولي الملك ظهره. وإذا أمكنه أن يتوارى عن نظر الملك عند المغادرة، فعل ذلك، ثم مضى في طريقه كما يحلو له، بعد أن أتم مهمته بكل آداب الخضوع والطاعة.

فخلاصة القول أنه إذا كان لشخص مقام في بلاط ملك أو مجلس عظيم، فليعلم أن ما يملكه من العلم أو الفضل لا يكفي وحده، بل يحتاج إلى ضبط نفسه، وإدراك حدوده، فالملك لا يُخالطه من يخالف الآداب، ولا يقرب منه من يجهل حدود الوقار. فلكل حركةٍ معنى، ولكل إشارةٍ مغزى. فلا يظن الشخص انه في موقفٍ عادي. فإن الملوك يعظمون من عرف قدرهم، ويحترمون من تأدب في حضرة سلطانهم. فليجعل الشخص في كل خطوة حكمة، وفي كل كلمة وقارًا، وليصنع له هيبةً من رزانة حديثه، واحترامه لزمانه ومكانه. وابتعاده عن كل فوضى أو اندفاع. فلا ينال رضا الملك إلا من عرف متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى ينصرف. فإن الحكمة ليست في كثرة الكلام، بل في معرفة الموضع الصحيح لكل كلمة، والحركة الواعية في حضور من تعظم شأنهم….

يتبع