في آداب الملك والملوك عند الجاحظ (الجزء الرابع)… في مطاعمة الملوك عند الجاحظ

بقلم: زكية لعروسي

امتاز الجاحظ بدقة الملاحظة وذكاء الطرح، حيث تناول في كتاباته عن الملوك جوانب مختلفة، فلم يترك بابًا في أدبيات مجالسة الملوك إلا وتطرق إليه، سواء كان ذلك في سياق المجالسات أو الاستقبالات- كما سبق وتعرضنا لهذا في الأجزاء الاخرى- . في هذه المادة سنخوض مع الجاظ في الحديث عن آداب المائدة وأسلوب التعامل مع الملوك، وفي هذا يقول :

“ومن حق الملك، إذا تبذل مع أحد، وأنس به حتى طاعمه، أن لا ينبسط بين يديه في مطعمه؛ فإن في ذلك خلالاً مذمومةً: منها، أن انبساطه يدل على شرهه؛ ومنها، أن في ذلك سوء أدب، وقلة تمييز؛ ومنها، أن فيه جرأةً على الملك ببسط اليد، ومدها، وكثرة الحركة.

وليس في كثرة الأكل مع الملك معنىً يحمد، إلا أن يكون الآكل كميسرة التراس أو حفصٍ الكيال، الذين إنما يحضرون لكثرة الأكل فقط. فاما أهل الأدب، وذوو المروءة، فإنما حظهم من مائدة الملك المرتبة التي رفعهم إليها، والأنس الذي خصهم به”.

إذا جالس المرء ملكًا على مائدة، وكان له من الحظوة ما جعله يأنس بصحبته ويشاركه الطعام، فواجب عليه أن يتحلى بأسمى مراتب الأدب والاحترام، فلا ينغمس في الأكل أمامه بغير تحفظ. فإن في ذلك عيوبًا عدة تنم عن صفات غير محمودة.

– أولاً، أن الإفراط في الأكل أمام الملك يكشف عن شراهةٍ، وهي سمةٌ مذمومة في كل أحوالها.

-ثانيًا، أن هذا التصرف ينطوي على سوء أدب وقلة فطنة، إذ لا يليق بمن يشرف بصحبة الملوك أن يظهر عدم تمييز في حضرة الجلال.

-ثالثًا، أن فيه من الجرأة ما قد يصل إلى تجاوز حدود الاحترام، حين يبسط المرء يده ويتحرك بحرية لا تليق بجلال المقام.

ليس في كثرة الأكل في حضرة الملك مدح أو فضل، إلا إذا كان من يتصدر تلك الموائد من أمثال “ميسرة التراس” أو “حفص الكيال”، الذين دُعوا لغرض وحيد، وهو الوفرة في الأكل. أما أهل الأدب والفضل، فإنما يتنعمون بالمنزلة الرفيعة التي أولاهم إياها الملك، ويستمتعون بالود والأنس الذي أسبغه عليهم، دون أن يُظهروا من الشراهة ما يليق بعامة الناس. وفي هذا الباب يستشهد الجاحظ بروايتين: الاولى عن المنصور والفتى الهاشمي، والثانية رواية حدثت على مائدة إسحاق بن إبراهيم:

1-المنصور والفتى الهاشمي

يروي الجاحظ في هذه الحكاية مشهداً من مجلس الخليفة المنصور الذي استدعى فتىً من بني هاشم وأجلسه إلى جانبه، ثم دعاه لتناول الطعام معه. فأجاب الفتى بأنه قد تغدى، فتركه الخليفة في البداية دون أن يُظهر أي انزعاج. غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، إذ عندما همَّ الفتى بالمغادرة، دفعه الحاجب الربيع على قفاه، تبعه الحجاب حتى أخرجوه من الدار بهذه الإهانة.

احتجّ أعمام الفتى لدى المنصور على ما فعله الربيع، فردّ الخليفة مدافعاً عن حاجبه قائلاً إن الربيع لا يُقدم على مثل هذا إلا إذا كان لديه سبب وجيه. وعندما استفسروا منه، قال الربيع: إن الفتى أظهر ازدراءً بتصرفه، إذ حينما دُعي لتناول الطعام مع أمير المؤمنين، ردّ باستخفاف قائلاً إنه قد تغدى، وكأن جلوسه على مائدة الخليفة لا يهمه إلا لإشباع جوعه، وليس لقيمة الصحبة والمقام. وكان هذا الفعل إهانة لا تكفي الكلمات لتأديبه، بل استحق عليها العقوبة بالفعل.

الحكاية تعكس مشاعر التفاوت بين المقامات والاحترام الواجب عند الوقوف بين يدي السلطان، حيث يغدو حتى التصرف الصغير دليلاً على الكبر أو قلة التقدير، مما استوجب رد فعل قوي حفاظًا على هيبة الخليفة ومجلسه.

2-على مائدة اسحاق بن ابراهيم

يتحدث مولانا الجاحظ في هذه الرواية الثانية عن حضوره على مائدة إسحق بن إبراهيم، التي كانت تغمرها ألوان من الأطعمة الفاخرة، من طيور متنوعة وأطعمة حلوة وحامضة، إلى درجة يصعب إحصاؤها. ومع كل هذا البذخ، لم يكن الجالسون يتناولون إلا القليل، بالكاد ما يساوي لقمة طائر، وكأنهم يلتزمون بأدب الطعام في حضرة الكبار، فلا يجرؤون على الأكل بشراهة. بل كانوا ينتظرون لحظة غياب المضيف ليندفعوا على الطعام سراً، مما يشير إلى حذرهم والتزامهم بالآداب الظاهرية.

وبعد هاتين الروايتين ينتقل الجاحظ للحديث عن شرف مؤاكلة الملوك، إذ يؤكد أن شرف المؤاكلة مع الملوك ليس في الأكل ذاته، بل في التحلي بالأدب والرصانة، لأن من يفقد سيطرته أمام الطعام، يفقد احترامه ومكانته في نظر الملوك.:

“وكذلك يجب للملوك أن لا يشره أحد إلى طعامهم، ولا يكون غرضه أن يملأ بطنه، وينصرف إلى رحله، إلا أن يكون الآكل أخا الملك، أو ابنه، أو عمه، أو ابن عمه، أو من أشبه هؤلاء؛ ويكون أيضاً ممن يقصر بعد الأكل ويطيل المنادمة، ويجعل ما يأكل غذاء يومه وليلته، إذ كان لا يمكنه الانصراف متى شاء.

وكانت ملوك فارس، إذا رأت أحداً في هذه الحال التي وصفنا من شره المطعم والنهم، أخرجوه من طبقة الهزل، ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار والتصغير.

والملك، وإن بسط الرجل لطعامه، فمن حقه على نفسه، وحق الملك عليه أن لا يترك استعمال الأدب، ولا يميل إلى ما تهوى طبيعته؛ فإنه من عرف بالشره، لم يجب له اسم الأدب، ومن عرف بالنهم، زال عنه اسم التمييز.

وإذا وضع الملك بين يدي أحدٍ طعاماً، فليعلم ذلك الرجل أنه لم يضعه بين يديه ليأتي عليه، بل لعله، إن كان لم يقصد بذاك إلى إكرامه أو مؤانسته، أن يكون أراد أن يعرف ضبطه نفسه، إذا رأى ما يشتهي من بسطه لها.

وحسب الرجل، إذا أتحفه الملك بتحفة على مائدته، أن يضع يده عليها. فإن ذلك يجزئه، ويزيد في آدابه.”

في حضرة الملوك وأرباب السلطة، لا يُقاس التكريم بما يقدَّم على موائدهم من طعام فحسب، بل بما يُظهره المرء من أدب ورزانة عند تناول هذا الطعام. فليست مائدة الملك مجرد فرصة لإشباع الجسد، بل هي امتحان للروح وضبط النفس. يجب على من يجلس أمام الملك ألا يتعامل مع الطعام بجشع، ولا يجعل غايته ملء بطنه ثم الانصراف، إلا إن كان من أقرب الناس إلى الملك؛ كأخيه أو ابنه أو أحد أفراد أسرته ممن يطيلون الجلوس، ويتصرفون بما يناسب المقام.

وقد عُرفت ملوك فارس بتشددهم في هذا الأمر، فإذا لاحظوا على أحد الضيوف شرهاً أو نَهماً، نقلوه من مقام الاحترام والتعظيم إلى درك الاحتقار والاستهانة. فالشره، في أعين الملوك، عيبٌ يُسقط عن صاحبه صفة الأدب، ويجعله عرضة للازدراء، إذ من أفرط في شهواته لم يكن جديراً بالتمييز أو التقدير.

وعندما يُقدِّم الملك طعاماً لأحد، ينبغي لهذا الشخص أن يدرك أن الملك لا ينتظر منه أن يستنفد ما وُضع أمامه، بل لعل غرض الملك هو اختبار مدى قدرته على ضبط نفسه أمام ما يشتهي. يكفي الرجل أن يضع يده على شيء مما أُتحف به، فهذا يكفل له القبول، ويعزز مكانته بالأدب والتأدب.

فالمرء في بلاط الملوك، لا يُمتحن بما يأكل، بل بما يمسك، وبقدر ما يُظهر من تعفف واتزان، لا بما يهفو إليه من شهوات.

كل هذا ينسجم مع ما يتطلبه مقام الملوك والحكام، حيث من غير اللائق أن يظهر الضيوف شراهةً أو يهدفون فقط إلى إشباع بطونهم. الملوك يتوقعون من ضيوفهم أن يحترموا أصول الأدب، وأن يظهروا ضبطاً لنفوسهم حتى أمام أطيب الأطعمة. فالشراهة تُخرج الإنسان من مقام التقدير إلى مقام الاحتقار. لذا، من الضروري أن يحافظ الإنسان على وقاره واتزانه في مجالس العظماء، لأن مائدة الملك ليست مكاناً للإفراط، بل اختباراً لضبط النفس وتقدير النعمة

….يتبع