بقلم: زكية لعروسي
ما زال الجاحظ يثري عقولنا بفيض علمه، فبعدما قدم لنا آداب دخول الأشراف والخواص على الملوك، يرتقي بنا إلى مقام أعلى، حيث يسعى أن يكسونا بجبة الملوك أنفسهم. فيُبحر بنا في عوالمهم، كاشفًا لنا عن أساليب تعامل الملوك فيما بينهم، مسلطًا الضوء على فنون الزيارة بين الملوك، ومراسم الوداع عند انصرافهم. وهذا ما سأعرضه في هذا السياق، مستخلصًا ما وراء تلك العادات من حكمة وتقاليد.
استقبال الملك لمن يساويه في الملك
يبرز الجاحظ ببلاغة ساحرة وعمق ثاقب أهمية التزام الملوك بأصول التعامل الرفيع بين أندادهم من الملوك، حيث يرى أن هذا الالتزام ليس مجرد واجب أخلاقي أو تقليد موروث، بل هو ركن راسخ من أركان استقرار الملكيات وحصن منيع يحفظ السلم بين الدول. فحينما يدخل ملك على ملك مثله في السلطان والنسب والمكانة، فإن بروتوكول الضيافة الملكية يقتضي أن يقوم الملك المضيف بخطواته المعهودة من التبجيل والتواضع، حيث يعانق ضيفه ويجلسه في مجلسه الخاص، متخلياً عن مقامه في تواضع يشبه العظمة. لأن أي إخلال بهذا الميزان الدقيق قد يشعل فتيل البغضاء بين العروش، فيغدو العداء بين الملوك سبباً للفساد وربما ذريعة للحروب، مما يفتح أبواب المملكة لرياح الخراب والتجارب التي تهدم دعائم الاستقرار. فيقول مولانا الجاحظ:
“وعلى الملك، إذا دخل عليه من يساويه في السلطان والتبع والعز والولادة والبيت، أن يقوم فيخطو إليه خطىً ويعانقه، ويأخذ بيده فيقعده في مجلسه، ويجلس دونه؛ لأن هذه حال يحتاج الملك إلى مثلها، من الداخل عليه، إذا زاره؛ فإن بخسه حظه ومنعه ما يجب له، لم يأمن الملك أن يفعل به مثل ذلك. ومتى فعل كل واحدٍ منهما بصاحبه ماهو خارج عن النواميس والشرائع، تولد من ذلك فساد، وحدثت ضغائن بين الملوك يقع بسببها التباغض والتعادي والتحاسد. وإذا اجتمع ذلك في المملكة، كان سبباً للبوار، وداعيةً إلى التجارب.”
النص- كما اشرنا- يتناول قضية دقيقة من الأدب الملكي والتعامل بين الملوك الذين يتساوون في المكانة والسلطة. يوضح من خلاله، أنه عندما يدخل ملك على ملك آخر يساويه في السلطان والشرف والنسب والجاه، فإنه يتعين على الملك المضيف أن يستقبله بأعلى درجات الاحترام، تعبيراً عن التقدير المتبادل بينهما. يقوم المضيف بخطوات محسوبة نحو ضيفه، يعانقه ثم يأخذ بيده ليجلسه في مقامه المخصص، بينما يجلس هو في مرتبة أدنى، دلالة على التواضع وحسن الضيافة.
هذا التصرف، في مجمله، ليس مجرد تعبير عن احترام فردي، بل هو إجراء ضروري لحفظ التوازن السياسي وتجنب ما قد يترتب على أي إخلال ب”البروتوكول” من مشاكل أو ضغائن قد تشعل فتيل الخلافات بين الملوك. فإذا قصّر الملك المضيف في أداء هذا الواجب، قد يرى الملك الزائر في ذلك إهانة، مما يدفعه إلى الرد بالمثل، وهكذا يتولد العداء بين الطرفين.
الجاحظ يبين بحصافة- كما أشرت سابقا- إلى أن تجاوز هذه الأعراف الملكية والشرائع الاجتماعية من قبل أي من الطرفين قد يؤدي إلى فساد العلاقات بين الدول، ويزرع البغضاء والحسد بين الملوك. وهذا التوتر بين الملوك قد يكون الشرارة التي تؤدي إلى انهيار المملكة، حيث تكون هذه المشاعر السلبية مدخلاً للنزاعات التي قد تضعف الدولة.
وداع الملك للملوك
لم يقتصر الجاحظ على تقديم رؤية عميقة حول تقاليد الملوك وأدبهم في التعامل مع بعضهم البعض في الاستقبال فقط، بل تناول ادبهم أيضاً في الوداع. فيوضح – كما سنشهد في النص اسفله- أن وداع الملوك لأقرانهم يحمل من الدلالات والأعراف ما هو بمثابة امتحان لأصول السياسة والحكمة الملكية:
“وعلى الملك، إذا أراد هذا الذي قدمنا صفته، الأنصراف، أن يقوم معه إذا قام، ويدعو بدابته ليركب حيث يراه، ويشيعه ماشياً، قبل ركوبه، خطى يسيرةً، ويأمر حشمه بالسعي بين يديه. وعلى هذا كانت أخلاق آل ساسان من الملوك وأبنائهم، وبهذه السياسة أخذهم أردشير بن بابك، فلم تزل فيهم حتى ملك كسرى أبرويز، فغيرها؛ فكان مما اعتد عليه شيرويه، ابنه، في ذكر مثالبه ومعايبه وقد قلنا إن من حق الملك أن لا يطيل أحد عنده القعود؛ فإن اخطأ مخطيء في ذلك، فمن إذن الملك له بالانصراف أن يلحظه. فإذا عرف ذلك فلم يقم، كان ممن يحتاج إلى أدبٍ، وكان الذي وصله بالملك ظالماً له ولنفسه.”
في النص اعلاه يشرح الجاحظ ان إذا همّ ملك بالانصراف بعد زيارة نظيره، كان من الواجب على الملك المضيف أن يقوم معه احتراما، ويأمر بإحضار دابته ليركبها أمامه ( وحاليا تحولت الدابة إلى السيارات) مع إظهاره لياقة أخرى حين يشيعه مشياً على قدميه لبضع خطوات، تعبيراً عن المودة والرفعة. كما يأمر حاشيته بالسعي أمام ضيفه، في موكب يوحي بالهيبة والاحترام.
ويشير الجاحظ هنا إلى أن هذه الأعراف كانت راسخة في أخلاق ملوك آل ساسان وأبنائهم، والتي وضع أساسها أردشير بن بابك، وظلت متبعة حتى عهد كسرى أبرويز الذي تخلى عن هذه التقاليد، مما كان سبباً في انتقاد ابنه شيرويه له واعتباره ذلك من عيوبه.
ثم يعود الجاحظ إلى نقطة جوهرية في آداب الملوك، وهي أن الملك ينبغي ألا يسمح لضيوفه بالبقاء طويلاً دون داع، فإذا أذِن الملك لضيفه بالانصراف ولم يقم الضيف على الفور، كان ذلك دليلاً على قلة أدبه وحاجته إلى تقويم. وفي هذا السياق، فإن من يقصر في تطبيق هذه الأعراف يظلم نفسه قبل أن يظلم ضيفه، ويخل بتوازن العلاقة الملكية القائمة على الاحترام والتقدير المتبادل.
النص الجاحظي يجسد ببلاغة وعمق أهمية الحفاظ على هيبة الملك من خلال الالتزام بالأعراف والتقاليد، ويؤكد أن تجاهل هذه الأسس قد يؤدي إلى تفكك العلاقات وإفساد التوازن الذي تقوم عليه المملكات
….يتبع