في آداب الملك والملوك عند الجاحظ

بقلم: زكية لعروسي

إنه لمن المعلوم أن العصر العباسي كان بحرًا زاخرًا بالحضارة والفكر، متسعًا لأرجاء الإبداع، غنيا بعطائه الأدبي والعلمي في مختلف مراحله. لقد ازدهرت فيه الحياة الثقافية، فازدانت بمدارس العلم وحلقات الأدب، وتضاعف فيه الإنتاج الفكري حتى بلغ القمة. ولم يكن هذا الازدهار ليحدث إلا بفضل عقول جبارة رفعت لواء العلم وأعلت شأن الأدب، ومن بين تلك الشخصيات التي حفرت اسمها في سِفْر تاريخ الأدب: مولانا الجاحظ الذي جمع بين براعة الفكر وبلاغة اللسان، قد وضع في أيدينا مؤلفات خالدة، كانت بمثابة مرآة عكست واقع عصره وفكره. ومن بين هذه الجواهر النفيسة، “كتاب التاج”، الذي قام بتحقيقه أحمد زكي باشا، والذي لا يشبه غيره من مؤلفات الجاحظ المعتادة. فهو كتاب يقتحم مضمار الآداب السلطانية، ويطرح نظرة متفحصة على ما يجب أن يُعرف عن مكانة الملوك وآدابهم. ارتأيت التطرق إليه عبر سلسلة من الحلقات. ليطلع على محتواه أبناء بلدي الحبيب المغرب باعتبارنا مملكة عريقة، أدام الله عليها ملكنا صاحب الجلالة نصره الله وسدد خطاه وحصنه بولي عهده مولاي الحسن وشعبه.

فيقول الجاحظ نفسه في مقدمة ” كتاب التاج”:
” فإن الذي حدا على وضع كتابنا هذا معان:

1- منها ّ أن االله (عز وجل) خص الملوك بكرامته, وأكرمهم بسلطانه, ّ ومكن لهم في البلاد, ّ وخولهم أمر العباد, أوجب على علمائهم تعظيمهم وتوقيرهم وتعزيرهم وتقريظهم, كما أوجب عليهم طاعتهم والخضوع والخشوع لهم فقال في محكم كتابه: ” وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات” وقال عز وجل: ” اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم”.

2- ومنها أن أكثر العامة وبعض الخاصة، لما كانت تجهل الأقسام التي تجب لملوكها عليها − ْ وإن كانت ّ متمسكة بجملة الطاعة−لتأدبها… ومنها أن سعادة العامة في تبجيل الملوك وطاعتها، كما قال اردشير بن بابَك:” سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة المالك”.

3- ومنها أن الملوك هم الاس، والرعية هم البناء، وما لا اُسَّ له مهدوم.

4- ومنها انا الَّفنا كتابا قبل كتابنا هذا فيه أخلاق الفتيان وفضائل أهل البَطالَة (ويعني بها الشجاعة heroïsme), وكان غير ذلك أولى بنا وأحق في مذهبنا وأحرى أن نصرف عنايتنا إلى ما يجب للملوك من ذكر أخلاقها وشيمها، إذ فضلها الله على العالمين، وجعل ذكرها في الباقين إلى يوم الدين. ألا ترى حين ذكر الله تعالى الأمم السالفة والقرآن الخالية، لم يقصد من ذكرها إلى وضيع ولا خامل؟ بل قال تعالى ً حكاية ّعمن مضى منهم: ”

يشرح الجاحظ الأسباب التي دفعته إلى تأليفه، فيقول:

-أولها، أن الله عز وجل قد خص الملوك بمنزلة رفيعة، ورفعهم درجات فوق سائر الناس، ومكن لهم في الأرض، وأوجب على العلماء والفضلاء تعظيمهم، كما أوجب على الرعية طاعتهم والخضوع لهم. وقد أكد الله تعالى ذلك في كتابه الكريم بقوله: “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات”، وقوله تعالى: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.

-ثاني الأسباب، أن كثيرًا من الناس، سواء من العامة أو بعض الخاصة، يجهلون حقوق الملوك عليهم، رغم تمسكهم بطاعتهم في الظاهر. فإن الطاعة ليست مجرد امتثال للأوامر، بل هي أيضًا احترامٌ وتقديرٌ للسلطان. وكما قال أردشير بن بابك: “سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة المالك”.

-أما السبب الثالث، فهو أن الملوك هم الأساس الذي يقوم عليه كيان الدولة، والرعية ما هم إلا البناء المستند إلى ذلك الأساس. وما من بناء يثبت إذا انهد أساسه، وما من رعية تزدهر إذا فقدت سلطانًا قوياً يعينها ويهديها.

-رابع هذه الأسباب، هو أن الجاحظ قد سبق له تأليف كتاب عن أخلاق الفتيان وفضائل أهل الشجاعة والبطولة، ولكنه رأى أن ما يليق بالعناية والاهتمام هو الحديث عن الملوك وأخلاقهم، وذلك لأن الله قد فضلهم ورفعهم بين البشر، وذكرهم في كتابه الكريم. وإذا كان الله قد أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يخاطبا فرعون الطاغية بلين ورفق رغم عصيانه، فما بالنا بمن أطاع الله من الملوك وحفظ حدوده؟!

إن هذا الكتاب يبين أن الملك ليس مجرد كرسي – كما يتخيل لبعض العقول غير المتفقهة- بل هو علمٌ راسخٌ، وقواعد ثابتة في الحكم والتسيير، لا يفقهها إلا من غاص في أعماق الحكمة وفنون القيادة. لقد بيّن الجاحظ أن الملوك ليسوا مجرد قادة سياسيين، بل هم رجال حملوا على عاتقهم أمانة عظيمة، تقتضي احترامهم والالتزام بآدابهم. فالجلوس بين أيديهم، والخطاب معهم، والسلام عليهم والانصراف عنهم، كلها أمور لا ينبغي أن تُعامل بخفة أوتجاهل.

إنه من الواجب علينا أن نفهم هذه الأدبيات ونجلّ من يسير على هديها، وخاصة إذا كانوا من سلالة آل البيت، ممن اصطفاهم الله بفضله وشرفهم بنسب نبيه الكريم.

وهكذا، يتضح أن “كتاب التاج” ليس مجرد مؤلف في آداب الحكم، بل هو مرجعٌ في أسس القيادة والريادة، وهو دعوة إلى فهم ما للملوك من حقوق وواجبات، وما عليهم من مسؤوليات جسيمة. فلا يليق بمن جهل هذه الأمور، او لمن هب ودب أن ينتقد نسج مملكتنا وأن يخوض في حديث الملوك واشرافها من آل البيت…يتبع