بقلم: عبد الدين حمروش
أجرى المصري، عبد الفتاح السيسي، ونظيره الألماني، فرانك والتر شتاينماير، مؤتمرا صحافيا، في إثر زيارة الأخير إلى القاهرة. وبعد أن انتهى السيسي من الحديث عن العلاقات الثنائية، عرّج على القضايا الدولية، وضمنها القضية الفلسطينية، وما يجري في غزة العزة بالتحديد. وفي معرض كلمته هاته، أشار إلى سقوط أربعين ألف فلسطيني، من جراء العدوان الصهيوني المتواصل على القطاع. هل خان السيسي التعبيرُ، وهو يصف الإبادة الجماعية التي تحدُث، حين أشار إلى سقوط الآلاف من الغزيّين؟ أوهل تجنب توصيف “السقوط” بـ “الاستشهاد”، حتى لا تتم استثارة الضيف الألماني، بالنظر إلى موقف بلاده المساند للصهاينة؟
في التغطيات الإعلامية، الوطنية والعربية والدولية، يُلاحظ وجود توصيفات عديدة للمجزرة الصهيونية التي تحصل في غزة. وبالطبع، فكل تغطية تختار العبارة المناسبة، بحسب الخط التحريري للمنبر الإعلامي (موال، معارض، محايد…). الشهادة والاستشهاد، اللتان لهما خلفيات دينية (إسلامية)، يتم استبدالهما في عدة قنوات بعبارات أخرى، من قبيل: راح ضحية الهجوم أربعون ألف فلسطيني، أو وقع في الهجوم أربعون ألف فلسطيني. وإذ تقترب العبارة الثانية، في دلالتها اللغوية والسياقية، من معنى السقوط، نجد الأولى أكثر حيادية، بالمقارنة، شيئا ما. ضحايا العدوان بالقنابل الذكية والغبية، هنا، لا يختلفون عن ضحايا الزلازل، والفياضانات، والحرائق. ولمن له معرفة بسيطة باللغة، يدرك الفرق بين الاستعمالين معاً.
هل “يسقط” الشهداء أو “يرتقون”؟ فِي ما يخصني، أفضل عبارة الارتقاء على السقوط. الأرواح ترتقي ولا تسقط. الجسد يسقط، بينما الروح ترتقي. ولكن، إلى أين ترتقي؟ إلى ربها في السماء، حيث هناك تُرزق؟ وهل يوجد الله في السماء حصرا، دون باقي الأماكن كما تعودنا في ثقافتنا الإسلامية؟ لا أريد أن أغوص في معالجة الموضوع من وجهة نظر فقهية. في ذلك بعض من أوجه خلاف، كما يكون قد بدا لي من أول وهلة. ومع ذلك، فالشيخ عكرمة صبري، مفتي القدس والديار الفلسطينية سابقا، نبّه إلى ضرورة استعمال “الارتقاء” بدل السقوط. عبارة الارتقاء أكثر رُقيّا من السقوط.
السقوط يحيل إلى الحفرة. والحفرة، لها دلالة سلبية، بخلفية دينية بيّنة. وفي سياق هذا، يمكن استدعاء ما ورد لدى المؤرخ المغربي الإفراني، بخصوص ما نُقش على رخامة السلطان المغربي، عبد الله الغالب السعدي، من أبيات (منها الآتيان):
أيا زائري هبْ لي الدعاء تكرُّما // فإني إلى فضل الدعاء فقيرُ
فها أنا ذا صرتُ ملقى بحفــــرة // ولم يغن عني قائد ووزيـــرُ
فقد حكى الإفراني أن السلطان الابن، أبا عبد الله المتوكل، خاطب الشاعر بشأن ما نظمه بحق والده: ” إن في قولك بحفرة دسيسة وتلويحا إلى الحديث: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من النار، فهلا قلت ببلقع أو نحوه”.
انتبه السلطان المغربي منذ قرون خلت، ولم ينتبه الرئيس السيسي في وقتنا الحالي. والحرص في التعبير لا ينبغي أن يفوت رجل سياسة، وبالأخص إن كان رئيس دولة كبيرة، اللهم إلا إن كانت له وجهة نظر مختلفة. لقد كان بين يديه “روجستر” من العبارات البديلة، إلا أنه اختار الأسوء منها على الإطلاق، أي تلك الدالة على السقوط.
هناك حرب مستمرة على الفلسطينيين، وعلى العرب بشكل عام. والحرب لا تدور رحاها على أرض المعركة فقط. ذلك أن هناك من الحروب، ما هو نفسي، وما هو ديبلوماسي، وما هو إعلامي. ولذلك، ليس من المستغرب أن تسمى المقاومة إرهابا، والشهادة سقوطا. هناك شعب محتلة أرضه. ومن الطبيعي أن يقاوم بالأسلوب الفعال الذي يرتضيه، كما خولت له بذلك جميع الشرائع والقوانين.