بقلم: سعيد بوعيطة
جاء في لسان العرب لابن منظور، المحبّة من الحب، وهو نَقِيضُ البُغْض. والحب هو الود والـمَحَبَّةُ والاسْتِحْسانِ، يكون للأحياء والأشياء والأفعال والغايات. وإذا كان الفلاسفة والمفكرون، قد أكدوا على أن المحبة تعلو على العدالة باعتباره الأخيرة أمِّ الفضائل، حيث يُعطى كلُّ ذي حق حقَّه، فإن المحبة، هي أن يُعطى كلُّ ذي حق حقَّه وأكثر. لكن ما من حب لا يقابله بغض، وما من محبة لا تقابلها كراهية؟
هذا مألوف في نسق التفكير البشري، نسق الأزواج المتقابلة، الذي يفترض الحبَّ خالصاً (مطلقاً) والبغضَ خالصاً، والمحبوبَ كاملاً وخيراً مطلقاً، والمكروهَ مسخاً وشراً مطلقاً، ولا يفطن إلى أن المحبة الخالصة هي الوجه الآخر لكراهية خالصة (محبة خالصة للذات وكراهية خالصة للأخر)، مثلها مثل القبول التام، الذي هو الوجه الآخر للرفض التام (على الرغم من أن التمام والكمال لا يتحقق إلى على مستوى الفكر، وليس الواقع).
هذه الازدواجية تعرفها المجتمعات المعاصرة اليوم، بشكل لم تعهده البشرية من قبل، وقد يتميز بها المجتمع الواحد كذلك. ففي الأسواق، و الشوارع، و الفضاأت العامة، والمؤسسات العمومية، وغيرها، تطفو مظاهر الكراهية بشكل بارز. بل الغريب أن سلوك الكراهية يحضر حتى داخل المساجد التي من المفروض أن تشكل فضاء المحبة الخالصة، والقلوب الصافية باعتبارها فضاأت مقدسة. فهل الكراهية متجذرة في الإنسان، أم أنها مجرد أفعال طارئة في حياته؟ وإذا كان الأصل في الخلق (الإنسان) هو المحبة (الفطرة)، فما العلاقة بين المحبة والكراهية؟ وهل وجود المحبة يستوجب بالضرورة وجود هذه الكراهية باعتبار أن الحياة (الكون) قائمة على المتقابلات؟
جدلية المحبة والكراهية
كل حديث عن المحبة والكراهية في السياق الاجتماعي العام (الإنساني)، يستوجب التسليم بكون المحبة تقع على الإنسان (الفرد الإنساني). أما الكراهية، فتقع على بعض أفعاله، وبعض صفاته المفارقة لجوهره. لهذا، فالمحبة تقع على الذات، في حين تقع الكراهية على بعض الأفعال وبعض الصفات. لأن الإنسان في ذاته، لا يستحق البغض والكراهية، وإن بدرت منه أفعال كريهة. بهذا الاعتبار، لا يمكن أن توجد محبة خالصة وكراهية خالصة. بقدر ما نتحدث عن حب يخالطه بغض، أو محبة تخالطها كراهية، عن بغض محايث للحب، وكراهية محايثة للمحبة، وعن تراجح دائم بين المحبة واللامحبة. نحب زوجاتنا وأزواجنا، ولكن قد نكره أحياناً بعض أفعالهن وأفعالهم، ونحب أولادنا وبناتنا، وأصدقاءنا وصديقاتنا، وجيراننا وأقاربنا وزملاءنا وزميلاتنا، ولكننا نكره، أحياناً، بعض أفعالهم وأفعالهن، وبعض محمولاتهم أو محمولاتهن. لكننا في جميع الأحوال، نعترف بإنسانيتهم وإنسانيتهن. فلا يمكننا أن نكره الإنسان في ذاته، من دون أن نجرده من إنسانيته، وإذا فعلنا ذلك، نكون قد تجردنا نحن من إنسانيتنا كذلك، من دون أن نعي ذلك أو نشعر به، وهذا هو جوهر العنصرية. لأن الكراهية الخالصة للآخر المختلف لأنه آخر، ومختلف، هي الكراهية الخالصة المقيتة التي تنصبُّ على الإنسان ذاته، لا على أفعاله ومحمولاته. وهو ما يوازي أن نحب، ونجرد من نحبهم من إنسانيتهم، أو لا نعترف بها إلا اعترافاً مشروطاً، بأن يكونوا مثلنا أو مثلما نريدهم أن يكونوا. وهو النمط السائد من المحبة في مجتمعاتنا المعاصرة، وإلى جانبه كذلك المحبة الخالصة للذات والكراهية الخالصة للغرباء والأجانب، علاوة على محبة التملق والتزلف والنفاق.
الكراهية بسبب والمحبة بدونه
إذا كانت الكراهية رهينة سبب أو عدة أسباب، فإن المحبة لا تحتاج إلى سبب لها غير ذاتها. لأنها مغروزة في الطبيعة البشرية، ترقى بارتقائها، وتسمو بسموها، وليس لها من غاية سوى ذاتها، وإلا كانت تملقاً وتزلفاً ونفاقاً. أما إذا فتشنا عن أسباب الكراهية المحايثة للمحبة، فسنجدها جلية في التنافس على السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية. لكن هذه الكراهية تزول، بزوال أسبابها. أما الكراهية الخالصة، فلا تزول إلا بزوال المحبة الخالصة، لأنها سببُها وعلتُها. فالمحبة الخالصة للذات الفردية أو الجمعية، هي سبب الكراهية الخالصة للآخر المختلف. لأن المحبة الخالصة والكراهية الخالصة، كلتاهما تقتضيان التفاصل والتباعد والعزلة.
لهذا، لا تكون الكراهية إلا لسبب أو عدة أسباب، أما المحبة، فلا تحتاج إلى سبب لها غير ذاتها. كما لا ترتبط بتأويل البعض للغريزة الجنسية، التي تكمن في أساس الحب أو المودة والاستحسان. لأن الغريزة الجنسية، أو غريزة حفظ النوع، تعني أمرين أساسيين. يرتبط الأول بالحفاظ على جميع أفراد النوع من حيث مسؤولية الشخص عن حياته، ومسؤولية الأسرة عن حياة أفرادها، ومسؤولية المجتمع عن حياة جميع أفراده، ومسؤولية الدولة عن حياة جميع مواطناتها ومواطنيها. أما الثاني، فيرتبط بإنتاج النوع وإعادة إنتاجه. لأن الغريزة الجنسية، ترتبط بالغريزة البشرية أو النوعية. فيما تبقى العلاقة الجنسية مجرد أداة ووسيلة لغريزة حفظ النوع، وليست هي الغريزة ذاتها. تنطوي الغريزة الجنسية، باعتبارها غريزة حفظ النوع، في حالة الطبيعة، على إمكانات المحبة والاهتمام والعناية والحرص والرعاية. مما يجعلها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وأخلاقياً، ترقى إلى حالة مدنية الإنسان. لتصبح هذه الأخيرة، بمثابة الوحدة المكتملة في الجوهر بين الإنسان والطبيعة في حالة وصول كل منهما إلى تحققه.
بهذا، يؤكد الفرد الإنساني، في وعيه النوعي حياته الاجتماعية الواقعية. لكنه في حقيقة الأمر، لا يعدو أن يكرر وجوده الواقعي في الفكر. كما أن وجود النوع، يؤكد ذاته في الوعي النوعي (للفرد)، ويكون إنسان في ذاته، وفي عموميته (وكلِّيته) كائناً مفكراً. مما يجعل المحبة الطريقة الوحيدة التي يظهِر بها الإنسان جوهرَه الأعمق، (جوهرَه الإنساني الكلي)، والطريقة الوحيدة لفهمه للكراهية. فبخلاف المحبة، ليست الكراهية غريزة في الإنسان، وليست واحدة من خصائص الروح الإنساني. من هنا، افترضنا أنها لا تقع في الأساس على الذوات، بل على الأفعال والصفات. أما الكراهية التي تقع على الذوات، فهي التعبير الأكثر وضوحاً عن العنصرية، باعتبارها شكلا من أشكال العدمية، ونسقا مولدا للتطرف والإرهاب. أما ما يسمى بالنزعة العدوانية المغروزة في الطبيعة البشرية، فسببها الخوف، لا الكراهية، وعلتها الحفاظ على الحياة الخاصة بالدرجة الأولى. بهذا، فالمحبة عاطفة إنسانية/كونية. تدل على تألق الفرد وانفتاحه على أفق كوني، باعتباره ارتساما خارجيا لعمقه الإنساني. وهذا هو الأفق الذي يحدد الكينونة (كينونة الإنسان). بحيث تقوم هذه الأخيرة على حالة المتشابه في التجارب الإنسانية من خلال المتشابه في الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، وفي المقابل، تبدو الكينونة عصيةً على التحديد، إذا ما انطلق الحديث عنها في فضاء الاختلاف تأسيساً على اختلاف الأفراد واختلاف الجماعات والأمم والشعوب. لهذا، وحدها الإبداعات الأدبية والفكرية و مختلف الفنون، تؤلف سمفونية الروح الإنسانية على لحن الحب والمودة، بحكم طابعها الفردي واحتفائها بالاختلاف والتعدد الإنساني.
البعد الإنساني للمحبة
يتجلى التحدي المطروح على الصعيد الإنساني الكلي اليوم، في كيفية التعاطي مع الذي يصب جام كراهيته، على من لا يواليه ولاء تاماً، ومن لا يخلص له الطاعة والانقياد. لهذا، فإن أحد المداخل الأساسية للخروج من جحيم المحبة الخالصة والكراهية الخالصة، في مجتمعاتنا المعاصرة، هو بناء العلاقات على مبادئ وقيم إنسانية مشتركة بين البشر جميعاً. لأن العلاقة المباشرة والطبيعية والضرورية بين شخص وشخص، عبارة عن علاقة طبيعية في أصلها، تكون علاقة الإنسان بالطبيعة هي مباشرة علاقته بالإنسان. كما أن علاقته بالإنسان هي مباشرة علاقته بالطبيعة، وبوظيفته الطبيعية الخاصة. من هنا، يتجلى في هذه العلاقة المدى الذي أصبحت فيه ماهية الإنسان طبيعة للإنسان، وقد غدت واقعة محسوسة وملموسة. يمكن ملاحظتها، أو المدى الذي أصبحت فيه طبيعة الإنسان هي ماهيته الإنسانية. أما المدخل الآخر، فيتجلى في العدالة في توزيع الثروة والسلطة ومصادر القوة، وإنصاف الفئات المحرومة والمغبونة تاريخياً، لتكون العدالة مقدمة ضرورية ورافعة أساسية للمحبة. وحين تحضر المحبة، يغيب نقيضها الذي هو الكراهية. ولا يكره بعضنا بعضا.