مغاربة أم مغربيّون؟

بقلم: عبد الدين حمروش

 

غير أن المثير في هذه الأرقام هو أن عدد التصاريح التي حصل عليها الجزائريون أقل من نظرائهم المغربيّين. فقد حصل الجزائريون على 31 ألفا و94 تصريح إقامة، مقابل ما يناهز 36 ألفا و648 تصريح إقامة للمغربيين”. وردت هذه الفقرة في مقال للصحافي الجزائري محمد مسلم، بجريدة “الشروق”، اليوم 21 غشت 2024 تحت عنوان: ” اتفاقية 1968 لم تعد مفيدة للجزائريين وفق الأرقام الفرنسية”.

من المؤكد أن الموضوع يعني الجزائريين وحدهم. وبذلك، فإن إلغاء اتفاقية 1968، أو عدم إلغائها، يعني الجزائريين، والسلطات الجزائرية. والملاحظ أن المقال سيق في إطار المناكفة الجزائرية للدولة الفرنسية، وبخاصة بعد اعتراف الأخيرة بالحكم الذاتي للصحراء المغربية، وبعد سحب السفير الجزائري من باريس. الطرف الجزائري يحاول إفراغ إحدى الأوراق الفرنسية من قوتها، أي اتفاقية 1968 الموقعة بين الطرفين، بشأن موضوع إقامة الجزائريين على التراب الفرنسي. بصريح العبارة، ومن وجهة نظر صاحب المقال، فالاتفاقية التي يزايد بها الفرنسيون لم يعد لها أي أثر واقعي، مادام المغاربة يتقدمون الجزائريين في الحصول على تصاريح الإقامة.

الصحافي محمد مسلم لا يعني المغاربة، على الأقل في هذا الموضوع المثار، كما كان يحصل في المواضيع السابقة. وما يلاحظ من وجود للمغاربة في المقال، إنما كان حصوله عرضا، في إطار المقارنة بين الحاصلين على تصاريح الإقامة، في كل بلد من البلدان المغاربية (الجزائر، المغرب، تونس). وعلى الرغم من هذا، فإن المقال يعني المغاربة في الجوهر، ولو أن الإشارة إليهم بدت عرضية. أين يعني الصحافي الجزائري المغاربة بالضبط؟ ومن ثم، أين كانت تتحول الإشارة إلى المغاربة من طابعها العرضي إلى طابعها الجوهري؟

بالعودة إلى المقال، أو بالأحرى إلى الفقرة المسجلة، أعلاه، سنجد أن الصحافي استعمل اسم “المغربيون” بدل “المغاربة”. من الناحية الصرفية، المغربيون أسلم من المغاربة. وقد أجهدت نفسي في البحث عن الصيغة الصرفية لـ “المغاربة”، باعتبارها صيغة جمع، نظير قولنا المشارقة، إلا أن بحثي المتعجل لم يسعفني بشيء ذي بال. “المشارقة” و”المغاربة”، اسمان أكثر شهرة (من نار على علم)، بحكم سعة التداول والاستعمال. وقد اعتمد اللغويون، في تصانيفهم اللغوية، تقسيم صيغ الكلمات إلى مستعمل ومهمل.

لقد ساد استعمال اسم المغاربة، لتعيين سكان المغرب الأقصى. والمغاربة يتميزون عن المغاربيّين، بحكم شمولية الاسم الثاني لجميع سكان المغرب العربي (أو المغرب الكبير بالنسبة إلى البعض الآخر). بقصد من الصحافي، أو حتى من دون قصد منه، هناك جزائريون، وتونسيون، ومغربيون (إضافة إلى الشعوب المغاربية الأخرى). يا تُرى، ما هي الحاجة إلى استعمال اسم “المغربيون” بدل “المغاربة”، الذي هو أكثر شهرة واستعمالا في الإحالة إلى مواطني المغرب الأقصى؟

حيث واقعة التسمية باتت تتكرر، باستعمال المغربيين على حساب المغاربة، صرنا نميل إلى قراءة واقعة “التسمية” على أنها محولة إلى إعادة تعريف سكان المنطقة المغاربية، أو بالأحرى إعادة تصنيفهم. ما من شك في أن تسمية سكان المغرب الأقصى على أساس أنهم “مغربيون”، تضعنا أمام أمرين متلازمين: – فمن جهة، يتحول المغاربة إلى مغربيين، ومن جهة ثانية يتحول المغاربيون إلى مغاربة. هكذا، يصير المغاربة اسما جامعا لكل مواطني بلدان المغرب العربي. أما المغاربيون، الذي يقابله بالفرنسية (Maghrebins  )، فهو منذور للطي والإهمال، إن كُتب للتوزيع الجديد النجاح على مستوى الاستعمال.

ما الذي يمكن أن يفيد به التوزيع الجديد، سوى استبدال اسم باسم؟ في نظرنا، التسمية أساس في التعريف، وبالتالي عنصر في التمييز. وفي حالات عديدة، تتغير الوقائع، والصفات والحالات والأعراض، بينما تظل التسمية دالة على الأصل (لمدة طويلة من الزمن). وفي حالات أخرى، يقضي تغيير اسم ما (لا يطيب لنا) مُراجعته في جميع الوثائق قضائيا. الأمر مكلف، لرسوخ الاسم في الذاكرة. وحتى مع تغيير الوثائق، لا شيء يؤكد غلبة الاسم الجديد الطارئ على الاسم القديم الراسخ.

لذلك، فالسؤال الذي يمكن طرحه في السياق الحالي: هو لماذا يسعى هؤلاء إلى إعادة تسميتنا، مع معرفتهم بنا تحت اسم مغاربة؟ وهل سعيهم في هذا الأمر معدود “مجاني” (أو محض صرفي- لغوي)؟ بالنسبة إلي، يظهر أن من شأن إعادة التسمية أن تُغيّر مجمل التاريخ، الذي عُرف به مواطنو ما يسمى “المغرب الأقصى”. ومن ثم، فإن ما جرى على المغاربة، حتى الآن، وحدهم دون غيرهم، سيصبح ضمن “الملكية المشتركة”، لفائدة جميع مواطني بلدان المغرب العربي. وفي سياق هذا، ستصبح الإحالة إلى “المغربيين”، في مختلف المصادر التاريخية والأدبية والعلمية، في حكم المفقودة. المغاربة، الذين عُرفوا بوصفهم ذاك، بحكم الدول الكبيرة الممتدة التي أسسوا، وبحكم الاتساع الثقافي والديبلوماسي الذي ران بهم على أكثر الشعوب والثقافات بُعدا، منذ قرون عديدة، سيغدون “نكرات” تحت اسم “المغربيين”.

ليس بالجديد القول إن المغاربيين يشتركون في أكثر من قاسم مشترك. والأكيد أن المستقبل الزاهر، بالنسبة إلى جميع الشعوب المغاربية، لن يتأسس إلا على قاعدة تكتل قوي، في مواجهة أوروبا المتوسطية، وعلى قاعدة دعم القضايا العربية العادلة، وفي طليعتها دعم حقوق الفلسطينيين في أرضهم “المحتلة”. غير أن الحلم شي آخر، والواقع شيء آخر بالمقابل. وحتى يتحقق الوعد بالمستقبل، ينبغي صيانة الذات الحضارية، تحت عنوانين: بالنظر إلى ما يجمعها بشعوب المنطقة المغاربية من جهة (وبالشعوب الإفريقية والمتوسطية أيضا)، وبالنظر إلى ما يميزها بصفتها ذات حضارية مخصوصة. وبالطبع، فالإزراء بأحد العنوانين هو إزراء بالذات كلها.

إذا رجعنا إلى السياق العام، الذي باتت تتم فيه إعادة تسمية المغاربة، سنجد أنه موسوم بالتنازع الثقافي بين الجزائريين والمغاربة. وقد بلغ هذا التنازع ذروته في مسارعة هذا الطرف في تسجيل هذا الموروث باسمه، لدى لوائح منظمة اليونسكو، في غيبة من الطرف الآخر. وبذلك، فالحرب العسكرية غير المعلنة، التي امتدت لتتحول إلى حرب اقتصادية، أضحت تأخذ لها أبعادا ثقافية اليوم. ففي إطار الصراع حول أصل المنشأ، بالنسبة إلى هذا الموروث الثقافي أو ذاك، كيفما كانت قيمته وطبيعته (أكان لباسا، أم أكلة، أم موسيقى، أم غير ذلك)، صارت توصف كل محاولة لإعادة تسمية “المغاربة” بكونها غير بريئة في السياق الراهن. ومن البؤس الشديد، أن يصير “باب المغاربة”، الذي يستأثر الصهاينة باحتلاله، موضوع سجال في السياق الحالي.

غير أن المغاربة يبقون مغاربة، بتاريخهم الثقافي المعروف، ودولهم السياسية المتواصلة، على الأقل منذ وصول المولى إدريس إلى فاس (وهو تاريخ دينامي لا يعدو أن تكون الهوية في سياقه متحولة بالتّبع). وبتاريخهم السياسي، الذي أثمر دولا وحضارات، ظل يُعرف المغاربة. ولعل أبرز ما به يمكن تعريفهم، هو تاريخهم السياسي- الثقافي هذا، الذي ظل فيه الحكم المركزي قائما في فاس، أو مراكش، أو الرباط، حتى في وجود غرناطة وقرطبة وإشبيلية. وعليه، فإن تسمية المغاربة “مغربيين” محاولة لتقزيمهم، أو بالأحرى حذفهم من مختلف الإشارات التاريخية، التي تقر بوجودهم الثقافي- الحضاري المديد.

البعد التاريخي معطى أساس في تعريف المغاربة. وأعتقد أن بدونه لا يوجد مغاربة أصلا. وحتى إن باتت تصر بعض الأطراف على الاعتراف بالحدود الموروثة عن الاستعمار، للاطمئنان على المكاسب الترابية الطارئة لفائدتها، وفي سياقها الموروثات الثقافية المحصلة فوق سطحها، فليس بإمكان المغاربة إلا أن يُولّوا الأدبار إلى التاريخ، لأن في هذا التاريخ حصل سلخ سبتة ومليلية، في غفلة منهم ذات ليل مدلهم. كما أن ليس من شأن المغاربة إلا أن يتحدثوا عن “حدودهم الترابية الحق”، في انتظار أن ينصفهم المستقبل يوما، وواقعية المصالح المشتركة بين دول الجوار. هل تنفصل الجغرافيا عن التاريخ؟ لا، أبدا، بالنسبة إلى المغاربة. التاريخ هو الذي يعيدهم إلى الجغرافيا: إلى حقوقهم الترابية في الصحراء، وفي سبتة ومليلية، والجزر الجعفرية، وغيرها. المغاربة هم مغاربة وحسب، وليسوا مغربيين.