مذكرات عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها (الحلقة الخامسة)

بقلم: زكية لعروسي

كان الجد المباشر القاضي السيد علي العروسي هو الثالث من “عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها” (حسب معرفتنا لأننا نجهل الكثير عن المسيرة العلمية لكل حفدة مولاي عبد السلام بن مشيش…والله اعلم) من ارتحل إلى تلمسان للدراسة والتدريس، جد ولد يتيما بعدما توفي والده الجد علي بن محمد بن احمد العروسي تاركا إياه جنينا ببطن والدته المصونة لالا يامنة الدرعاوية التي أصرت أن تورثه إسم زوجها الراحل. ليأخذه بالرعاية اخوه الطيب، ويعلمه فن التجارة.

بدأت رحلات الجد علي المعرفية والعلمية منذ شبابه، إذ طرق ابواب الزوايا الموجودة بالمنطقة الشرقية اولا، و الزوايا الموجودة بالقطر الجزائري ثانيا، ولم يكن الترحال لا بالسهل ولا بالهين، بحيث للحصول على شيء من النور العلمي كان يشق طريق الوعر من جبال بسيدي ميمون مشيا على الأقدام للوصول إلى جهته المقصودة بالجزائر. لتتوالى رحلاته العلمية الواحدة تلو الاخرى

.وقد كان هذا الترحال الفقهي التربوي المتتالي للجد القاضي السيد علي العروسي ولما قبله من الاجداد من بين الأسباب التي جعلتنا نهتم بعلاقة الفكر الصوفي وشخصية افراد “عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها. ومما رواه ابن الجد علي (الذي ما هو إلا الوالد رحمه الله) ان هذا الاخير كان كاتبا رسميا لدى قائد :مثقف بالجهل” حتى لا نذكر إسمه المعروف عند أصحاب بركان (لا زلنا نحتفظ ببعض الأوراق من كناش الضبط الذي كان يسجل فيه الصادرات والواردات) قبل أن يشد الرحال إلى عين الحوت بقرب تلمسان لمدة سنوات وكان هذا بين 1924 و1928.

وقد كان “القايد المثقف” سببا في رحلة الجد إلى تلمسان، بحيث طلب يوما من الجد القاضي السيد علي العروسي أن يكتب له رسالة رسمية، وبعد الانتهاء من تحريرها بدأ في قراءتها ل”لقائد المثقف” ، ليقرأ الجد علي عبارة ” …إذهب.. وانظر…” في سياق الرسالة، وفجأة يتجهم وجه قائدنا المثقف وقال بغضب فائض للسيد علي:

“واشنو هاذ الشي..تتجرأ وتقول للشخص المعني بالكتابة وهو شخصية نافذة “إذهب” واش هو كلب ..كلمة نقولها للكلاب فقط. فهل انت جاهل وتدعي العلم؟!!!.”

جاءت هذه الكلمات كضربة قاضية اِسْتشَفَّ منها الجد علي جهالة وجهل “القايد المثقف” -رحمه الله- فاسقط قلمه واوراقه بعدما قدم -في التو واللحظة- استقالته ليقفل راجعا إلى بيته وعلى كتفيه نواميس الخذلان وهو يردد بكلمات الاسف للزوجة؛ ” كيف يمكن إسناد أمور تسيير الإدارة لجلاليب الجهل، وينسب العلم ،وصناعة القانون للجهلة، ولمن عُمِيتْ ابصارهم عن كتاب الله.. اناس ليس لديهم ولو شقوفا من ادب وفن الكتابة.. يا إلهي رجع القلمون (في وجدة يطلق على القب ديال الجلباب) عند الرجْلِينْ، ليصبح اهل العلم يعملو عند اهل الجهل”

وبما ان الجد السيد علي كان مؤمنا أن الندم لن يُصلِح ما فسد وفات وافسده غيره، قرر بعد أيام معدودة الرحيل مع عائلته الصغيرة للمرة الثانية (المرة الأولى عندما كان طالبا، وكانت هناك رحلات متقطعة غير طويلة للتدريس المؤقت) إلى تلمسان بؤرة اجداده العلمية، وبيئته الطبيعية لتدريس اصول الدين وفروعه وقواعد المذهب الفقهي… ل”تدور السنوات و الايام” وما الدنيا إلا ” دوَّارَة” فيزور “القائد المثقف” الجد علي بزاوية بلفضل باعتبار الزوايا كان لها دورا اجتماعيا، فهي مكان لاستقبال الفقراء وعابري السبيل، والضيوف. رحب به هذا الاخير وجاد عليه مما يملك من اساليب الترحاب المغربية، فسأل ” القايدالمثقف” الجد علي: ” ” مين جاتك هاذ الخيرات كلها سيدي علي العروسي.. وكِيدَارْ مَسَّكْ عليك الله”

السيد علي:

“من فضل الله، ومن فضل علمي و عبارة الجاهلة كما نعتني بها “إذهب” التي اغضبتك، وكانت سبب رحيلي من بركان واستقالتي… بالله عليك كيف لواحد في منصبك ان يجهل منبع هذه العبارة ..اولم تقرأ يوما قوله تعالى في سورة يوسف: ا”ذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ”

وقوله تعالى في سورة المائدة:

“”فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ”

وقوله تعالى:

“قال إذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفورا”

“القائد المثقف”:

“ولكن ، علاش سيدي علي قدمت الاستقالة دون اي تعليق أو شرح يسد رمقي… لو كنت ما قبلتش الاستقالة”

الجد علي:

” في كذا مو قف،الصمت بلاغةٌ وقولٌ، والفعل سيف..وكثرة الكلام هدر للكرامة”

جوابا اسكت و اخجل والجم ما تبقى من لسان مثَقِّفٍ ومُثقَّفّ ل” لقايد المثقف”

مكث الجد السيد علي العروسي مدة بديار العلم بالحناية، وعين الحوت بولاية تلمسان، وانتقل بعدها إلى “زاوية الهامل” التي كانت تقرب بمدينة بوسْعادًة التاريخية ذات المآثر السياحية والطبيعة المتميزة في شمال الصحراء الجزائرية لممارسة مهنة التدريس، واستنساخ ما استطاع إليه سبيلا من ثراتنا الفكري والفقهي والنحوي. ليحصل على بها على إجازة لنشر وتدريس الطريقة الرحمانية الخلوتية في زوايا اخرى، (نتوفر على نسخة منها).

ولم يكتف الجد الشغوف بارتشاف فناجين المعرفة بهذه الزاوية، بل كانت زاوية بلفضل وجهته الثالثة بالقطر الجزائري، إذ كانت تربطه بشيخها الطيب بلفضل علاقة نسب وقرابة ١(تزوج مع الإبنة الموقرة لشيخ زاوية بلفضل حين كان طالبا بالزاوية اثناء رحلته العلمية الاولى، وانجب منها بنتا توفيت بعد ذلك- اجمل الرحمات على روحها-)، إضافة إلى الأخذ من مسالك الإشعاع الروحي والعلمي، ومنابع الهداية والفضيلة. والجدير بالذكر أن هذه الزوايا لم يخترها القاضي السيد علي العروسي عبثا بل كان هناك سببين:

السبب الاول:

على غرار جميع الدول العربية الأخرى ستعرف الجزائر منذ العهد التركي انتشارا واسعا للزوايا والطرق الصوفية والأضرحة والقباب بالارياف والقرى، ولأن السلطة العثمانية اعتمدت على الشعور الديني، وقوة الرباط الروحي في عائلات رجال الدين لفرض وجودها بتلقائية على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي.

السبب الثاني

يكمن في قرابة النسب والشرف التي كانت تربط شيوخ هذه الزوايا بالجد السيد علي العروسي وهو النسب الإدريسي العلمي.، فيقول الدكتور عوفي عبد الرحيم:” وسكان الهامل كما تشير إليه بعض الروايات ينحدرون من الاشراف بالمغرب الاقصى الذين ينتسبون إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص).”

عاد الجد السيد علي العروسي من ديار العلم في بدايات القرن العشرين إلى مدينة بركان لممارسة مهنة التدريس بالجامع العتيق ببركان، ليصبح قبلة ثقافية ومرجعاً دينيا لساكنة المدينة، ينتقل بين زاوية واخرى لنشر الطريقة الرحمانية الخلوتية، بدءا من الزاوية المسماة زاوية سيدي علي البكاي (وهو جد زوجته لالا رقية البكاوي)، ولم يقتصر على هذه الزاوية، بل نشر طريقته الرحمانية بزاوية الشيخ الهبري والزاوية الدرقاوية وزاوية أولاد المير.

أما الزاوية البودشيشية، فقد رضعت من اثداء الطريقة الرحمانية الخلوتية التي لقن أصولها وسلوكياتها الجد القاضي السيد علي العروسي لطالبه الشيخ حمزة البودشيشي، ليؤسس بعدها الزاوية البودشيشية بمدينة احفير.

بقي الجد علي على هذه الحال واهبا روحه للعلم، وجاعلا من مشكاته منبعا لكل من اراد ان يقتبس شيئا من النور، حتى وافته المنية سنة 1934 في عمر يناهز ثلاث وستون سنة، تاركا مكتبة زاخرة من مخطوطات قيمة مدونة ومنسوخة بيده الكريمة من مكتبة زاوية بلفضل وزاوية الهامل تحتوي على مواضيع في جميع مجالات العلوم. بالإضافة إلى مراسلات شعرية ونثرية مع شيوخ الزوايا بتلمسان وشخصيات نافدة في. مجال القضاء…هكذا كان ورع وشغف قدمائنا، وشيخنا السيد علي العروسي العَلَمي… شغف عالم وهب حياته لرسالة العلم رغم مسؤولياته الاسرية، وكفاه الله من شر عولمة التيكتوك والانستغرام…

يتبع