مذكرات عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها (الحلقة الرابعة)

بقلم: زكية لعروسي

تزامن وصول الجد السيد علي العروسي مدينة وجدة مع يوم السوق الأسبوعية بالساحة المعروفة بمدينة وجدة ب”ساحة سيدي عبد الوهاب”، أو “باب الريوس” كما كانت تسمى سابقا، كانت فرصة لجدي لإقنتاء بعض اللوازم الضرورية لإتمام رحلته من أجل البحث عن والده محمد بن أحمد العروسي، ،والاستمتاع بكاس شاي بالمقهى التقليدية المتواجدة في الجهة اليمنى من مدخل السوق، والتي تعرف ولوج الكثير من القادمين إلى السوق الاسبوعية، فكان السيد علي العروسي باديا للعيان أنه رجل غريب لم تطأ من قبل قدماه مدينة وجدة. فبمجرد جلوسه على احد كراسي المقهى داهمه شخص بكلامه:

“إعطيني النكوة ديالك و الليسي باصي “، إذ كانت هاته العبارة متداولة بين أعوان السلطة لمعرفة هوية الوافدين على السوق الاسبوعية، فمد جدي يده اليمنى داخل “زعبولته” التي كان يخفيها تحت ملابسه، وقدم الوثائق المطلوبة لعون السلطة دون تردد لان بحكم احتكاكه بالمستعمر الفرنسي بالجزائر استطاع فك لغز الكلمتين الأجنبيتين وعرف أن “النكوة” تعني (le nom est quoi), وأن “الليسي باصي” تعني (laisser passer), تفحص عون السلطة بعينيه فحصا دقيقا الجد علي العروسي قائلا:

” مين انت…واش وصلك لوجدة”
الجد علي:

” يا ولدي..وجدة فقط ممر للوصول إلى إتجاه محدد وهو بلدة ” المنزل” التي يتواجد بها ابي الفقيه محمد بن احمد العروسي”

عون السلطة:

“إذن انتم من منبع الشرفاء العلميين… ما شاء الله سيدي الفقيه العلامة.. احنا مْسَلْمِينْ ومْكْتفِين ” (نقلت كما رواه والدي .. هي عبارة كانت تتداول لتقديم الولاء لأولياء الصالحين من الشرفاء)

الجد علي:

” نحن حفدة مولاي عبد السلام بن مشيش يا ولدي.. وما قصدنا تلمسان إلا للنهل من اثداء علوم الفقه واللغة والنحو وطرق التصوف من شيوخنا الشرفاء الذين سبقونا إلى تلمسان”

فبعدما حدث الجد علي العون عن جنسيته المغربية، ونسبه الشريف، وعن اسباب تواجده بالمدينة التي كانت مجرد ممر، لغايته المقصودة، لم يتردد عون السلطة على ارشاده الطريق المختصرة للوصول إلى المكان المبتغى، وهي المرور ببني درار (بلدة بين بركان ووجدة معروفة حاليا بالشواء وبيع البضائع الآتية من الجزائر عبر طريق مغنية) ، و مدينة أحفير، ثم اخيرا الوصول إلى “المنزل” بمدينة بركان.

الغريب في الأمر أن العون لم ينقب فيما يخص تواجد الجد علي بالجزائر (كما هو الامر الآن) لما للكلمة حاليا من حمولات سياسية و جغرافية وعدائية، ولم يشكك في أصوله البثة، بل غمر عيناه بريق إعجاب واحترام وتقديس للجد الورع. مكث هذا الاخير مدة قصيرة بالمقهى وهو يبصر تصرفات المتواجدين بالسوق، لتثير انتباههه “جوقة” من الناس حول شيخ كانوا يحدثون ضجيجا صاخبا وكأنهم يتعاركون في ما بينهم، ليتبين له انه رجل يحسن الكتابة والقراءة، وقد اعتاد المجيء للسوق الاسبوعي من اجل توثيق عمليات البيع والشراء مقابل فرنكات قليلة، وتمكين الناس من وصولات البيع، وتوثيقها في مجلد كبير مغلف بجلد أسود، مطرز بخط أندلسي مكتوب بريشة مصنوعة من القصب الحر يغمسها في محبرة بها صمخ.

بعدها دفع الفضول بالجد السيد علي العروسي للتجول بالسوق لمعرفة أثمنة كل ما كان معروضا للبيع من غنم وماعز وبقر وأحصنة، وبغال وحمير، لتدغدغه فكرة بيع بغلته واستبدالها بفرس أثارت انتباهه كانت تتميّز بجسم عضليّ، وجذع متين، وعنق، وذيل طويلين، وارجل طويلة ونحيلة، وسواد داكن، إلا أنه سرعان ما تراجع عن فكرته.ل”قلة الشي” ولعقلانيته وزهده، واكتفى بإطالة النظر إليه، وتمرير يده على صهوته، وهو يردد: ما شاء الله.. ما شاء الله.. فكانت نظرات الجد علي توحي بامل أن يستوي في هذه البقعة من الارض (وجدة) على قمة عز علمية، والوصول إلى مكانة رفيعة.

واصل جدي بعد ذلك طريقه إلى مقصده “المنزل ” ملتمسا لقاء والده محمد بن أحمد العروسي وعناقه، مؤمنا بأن رحمة ربنا وسعت كل شيء، ليزج له خبر وفاته، أو بالأحرى قتله من طرف طالب كان يلقب ب “المعلًّم” دخل في مناقشة حادة مع استاذه الجد محمد بن احمد العروسي، ليباغته على حين غرة وهو يقوم بعبادة الوضوء، بضربة بحجارة كبيرة من الخلف على راسه ، ليسقط صريعا – رحمه الله ورحم موتانا اجمعين- ، ليدفن بنفس القرية “المنزل” موطنه الذي استقر به بعد قضاء سنوات عدة بتلمسان، وقد بنيت على قبره قبة صغيرة وهو معروف ب”قبر سيدي رحو “، ويزار إلى يومنا هذا…

كان هذا الحادث وصدمة الفقدان سببا وراء استقرار الجد علي بن محمد العروسي بمدينة بركان عند قبيلة إدرعوين أي نسبة إلى الدرعي، وهم شرفاء أدارسة أصلهم من واد درعة غَيرُ آبهٍ بالرجوع للتدريس بتلمسان، إذ أصبح حازما على إتمام رسالة ابيه العلمية والفقهية ونشر الطريقة الرحمانية من شيوخ تلمسان، فكلف بإدارة المسجد المتواجد وإمامته بالدوار المذكور، وتعليم أبناء ابن ذرعوين ما تيسر له من العلوم الفقهية، واللغوية والنحوية، فتزوج بشريفة درعاوية، وانجب منها أولادا ومنهم الجد المباشر القاضي علي بن علي بن محمد بن أحمد العروسي والذي سيرحل في فترة مبكرة من حياته إلى الحناية بتلمسان على سنة جديه علي و محمد العروسيين من اجل النهل مما تيسر من العلوم الفقهية والتدريس بمساجدها وزواياها…

يتبع