بقلم: د. عبد الدين حمروش
هناك تلاحق لعدة أحداث خلال الفترة الأخيرة، في ظل الانسداد العسكري للسيطرة على القطاع، وبالتالي القضاء على حركة حماس. ذلك ان معظم المحللين السياسين، الأمريكيين والأوروبيين وإلاسرايليين أنفسهم، انتهوا إلى استحالة القضاء على التنظيم الإسلامي المقاوم “حماس”. اليوم، في ظل الواقع الجديد، ومع إشراف الشهر الثالث من الحرب على الانتهاء، بدأت المصطلحات السياسية تتغير، ما ينم عن تغيير في الأهداف. بدل القضاء على حماس، أخذ الاكتفاء بالتعبير عن إبعاد تهديدها، أو بالأحرى التقليل منه إلى أبعد مدى، يسود على مستوى الخطاب السياسي الإسرائيلي.
لقد تم استشهاد أكثر من واحد وعشرين ألف فلسطيني غزي، وتدمير ثلاث أرباع بيوت غزة، الا ان النصر الحقيقي الواضح والملموس لحكومة نتانياهو لم يتحقق حتى الساعة. فهل توسيع إطار الحرب خارج غزة، في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي إيران، يعبر عن المأزق العسكري للجيش الإسرائيلي في غزوه البري للقطاع؟
يمكن اعتبار قتل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشيخ صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، بمثابة “ثمن مستحق” تم استخلاصه من الدم الفلسطيني، مقابل دفعه للمجتمع الإسرائيلي، الذي ظل راغبا، بأغلبيته، في استمرار الحرب. يضاف إلى هذا الثمن، المجزرة الدموية، التي قتل فيها أكثر من مائة زائر، في حشد بشري هائل، كانوا في طريقهم إلى ضريح القائد الإيراني قاسم سليماني.
ماذا بعد؟
ان الانسداد العسكري الذي يواجهه قادة الاحتلال بغزة، في ظل وجود حركة شعبية عالمية رافضة للإبادة الإسرائيلية الجماعية للفلسطينين، وفي ظل تململ أمريكي تم التعبير عنه بانسحاب حاملات الطائرات من مياه البحر المتوسط القريبة، بات يفرض على مجلس الحرب الصهيوني الانسحاب التدريجي من داخل بعض مناطق القطاع، أو ما اعتيد على توصيفه بعبارة “الانتقال إلى المرحلة التالية”.
على الرغم من كل المؤشرات السابقة، الا ان ما صار يزعج القيادة الإسرائيلية، بسياسييها وعسكرييها، حتى قامت بتخصيص اجتماعات لمناقشة الموضوع، هو الدعوى المرفوعة إلى محكمة العدل الدولية، من قبل دولة جنوب افريقيا. الفشل العسكري، الذي بات معززا بفشل ديبلوماسي، جراء انزياح عدد من الدول الأوروبية عن تأييد الحرب على غزة، ينتظرهما فشل قانوني، إذا ما تم اتهام اسرائيل بالإبادة الجماعية لسكان غزة. وهكذا، تصير الإدانة القانونية المتوقعة، حسب الملف الذي أعده الجنوب- افريقيون، إدانة أخلاقية، ايضا، ما يضع دولة الاحتلال ضمن الدول المنبوذة عالميا، ومن ثم يرتب عليها أثمانا ديبلومسية واقتصادية متعددة. ويبدو ان الجانب الأخلاقي، في الدعوى بالإبادة الجماعية، سيكون أكثر وطأة على الصهاينة، باعتبار كونه الأساس الذي قامت عليه اسرائيل نفسها، والذي أطلق أيديها في احتلال فلسطين، عبر السلب والقتل والتدمير.
ومن غريب الصدف، ان الإسرائيليين يواجهون، اليوم، بالدعوى نفسها، التي رفعوها ضد النازية إبان ما يسمى الإبادة الجماعية لليهود. ومن اغرب الصدف، ايضا، ان توصيف الإبادة الجماعية، من الناحية القانونية، كان من قبل المحامي اليهودي رافائيل ليمكين.
إذا كانت اسرائيل قد خسرت الحرب، فهل ربحها فلسطينيو غزة، والفلسطينيون بصفة عامة؟ في الواقع، لقد خسر هؤلاء أكثر من واحد وعشرين ألف شهيد (عند ربهم يرزقون)، إضافة إلى التدمير الهائل في المنازل والبنيات التحتية، ما يجعل القطاع غير مؤهل للسكن فيه، كما شاءت لذلك دولة الاحتلال وبيتت. غير ان الفلسطينيين، وعلى الرغم من الأثمان الباهظة التي أدوها، جراء الحرب الأخيرة المعلنة عليهم، لم يخسروا حريتهم، حلمهم في دولة فلسطينية كاملة السيادة. للحرية، بالنسبة إلى الشعوب التواقة، اثمان وتكاليف.