
بقلم: محمد خوخشاني

أولاً: إشبيلية عبر الحافلة المكشوفة.
إشبيلية ليست مدينة تُزار على عجلة، ومع ذلك فهي تمتلك تلك الموهبة النادرة في تقديم جوهرها خلال ساعة واحدة فقط. فمن فوق سطح حافلة سياحية مكشوفة، يصبح الوقت مشهداً متحركاً، وتتحول المدينة إلى كتاب مفتوح تُقلب صفحاته ببطء تحت شمس الأندلس الدافئة.
في هذه الجولة البانورامية، لا يقتصر الأمر على تعداد المعالم، بل يتعداه إلى قراءة الانسجام العميق بين الحجر والذاكرة. فمن صومعة “الخيرالدا” (La Giralda)، التي لا يزال يسكنها صمت وظيفتها القديمة كمئذنة، إلى القصور حيث يحاور الفن الإسلامي الباروك المسيحي، تحكي إشبيلية قصة التحولات والتعايش دون تكلّف.
تحاذي الحافلة نهر “الوادي الكبير” (Guadalquivir)، ذلك الشريان الحيوي الذي عبرت من خلاله يوماً كنوز العالم الجديد. إنه يذكرنا بأن المدينة لم تكن يوماً على هامش التاريخ، بل كانت أحد القلوب النابضة للإمبراطورية الإسبانية. ورويداً رويداً، يتسع الفضاء نحو الساحات الصرحية والحدائق، وهي رموز الطموحات العمرانية للمعرض الإيبيري الأمريكي عام 1929، قبل أن تعيد المدينة ابتكار نفسها مجدداً مع معرض “إكسبو 92”.
تكفي ساعة واحدة لندرك أن إشبيلية لا تعيش في الماضي ولا في القطيعة معه. إنها تتقن فن التوازن: الحفاظ على الذاكرة مع الجرأة في استشراف المستقبل. ومن الأعلى، تبدو هذه العبرة جلية: مدينة يستحيل اختزالها، لكنها قادرة على سرد نفسها بأناقة، حتى لعابر سبيل.
ثانياً: وصف المحطات الخمس الرئيسية.
تتجسد المراحل الخمس للجولة السياحية في إشبيلية من خلال معالم بارزة تسمح باستيعاب المسار بصرياً:
1) القلب الأندلسي الإسلامي: الأصول والموروثات
ما إن تنطلق الحافلة حتى تخترق الحي التاريخي، مهد الثقافة الأندلسية.
الخيرالدا: مئذنة قديمة تحولت إلى برج أجراس، ترمز لملتقى العالمين.
قصر المورق (Real Alcázar): قصر مرصع بالأفنية والفسيفساء والحدائق، يجسد الفن الإسلامي وتطوراته.
أزقة سانتا كروز: تدعو الزائر لاستشعار روح المدينة الخفية.
2) إشبيلية الإمبراطورية: الكاتدرائية، الأرشيف والوادي الكبير
تحاذي الحافلة بعد ذلك المثلث التاريخي الأهم:
كاتدرائية إشبيلية: كبرى الكاتدرائيات القوطية في أوروبا.
أرشيف جزر الهند (Archivo de Indias): كنز وثائقي من عصر الاكتشافات.
نهر الوادي الكبير: الرئة التجارية السابقة، يحكي أمجاد إشبيلية المينائية نحو العالم الجديد.
3) الباروك والتقاليد الشعبية
تسلط هذه المرحلة الضوء على الزخم الفني والديني في القرنين السابع عشر والثامن عشر:
ساحة المخلص (Plaza del Salvador): قلب الحياة الإشبيلية بطابعها الباروكي.
كنيسة الماكرينا (Macarena): رمز حي للارتباط الشعبي بالتقاليد.
مواكب أسبوع الآلام (Semana Santa): مظاهر إيمانية مهيبة تعكس الهوية المحلية.
4) إشبيلية الحديثة والمعرض الإيبيري الأمريكي لعام 1929.
ينفتح المسار نحو مساحات حضرية شاسعة، ثمرة النهضة العمرانية في القرن العشرين:
ساحة إسبانيا (Plaza de España): ساحة مهيبة وتاريخية بُنيت خصيصاً لمعرض عام 1929.
منتزه ماريا لويزا: الرئة الخضراء حيث يمتزج الفن بالطبيعة.
5) إشبيلية المعاصرة: الابتكار الحضري ومعرض إكسبو 92.
المرحلة الأخيرة تجسد الطاقة الإبداعية لمدينة متطلعة نحو المستقبل:
مظلة الميتروبول (Metropol Parasol): صرح أيقوني من القرن الحادي والعشرين يوفر إطلالات بانورامية مذهلة.
جزيرة لا كارتوخا (Isla de la Cartuja): قلب التحول ما بعد المعرض العالمي لعام 1992، حيث يتقاطع التخطيط العمراني مع الثقافة.
خاتمة المسار:
إن هذه الجولة بالحافلة السياحية ليست مجرد تتابع للمعالم، بل هي قراءة حية وسلسة لتاريخ إشبيلية؛ من الأندلس إلى العصر المعاصر، ومن المئذنة إلى الهندسة المعمارية الجريئة، ومن النهر التجاري إلى الساحات الاحتفالية. كل وقفة للعين تتحول إلى رواية، وكل واجهة بناء تصبح ذاكرة نابضة بالحياة


















