
في لحظة مفعمة بالاحترام والتقدير، وتحت شعار “من شاشة السينما تُبنى الجسور وتُروى القضايا”، شهدت مدينة وجدة في شرق المغرب لحظة استثنائية، تكريمًا يليق بفنان استثنائي: مارسل خليفة.
في الدورة الرابعة عشرة للمهرجان الدولي المغاربي للفيلم، الذي تنظمه جمعية “سيني مغرب”، لم يكن التكريم مجرد وقفة تقدير لفنان، بل كان احتفالًا بقيمة فنية وإنسانية وثقافية حملت عبر العقود همّ الإنسان العربي في نضاله من أجل الحرية والكرامة.
مارسل خليفة ليس مجرد مؤلف موسيقي أو عازف عود؛ بل هو صوت الوجدان العربي، أيقونة التزامٍ حملت قضايا الأمة في اللحن والكلمة.
وُلد عام 1950 في عمشيت اللبنانية، وتخرّج من المعهد الوطني العالي للموسيقى في بيروت، ليبدأ رحلة فنية لم تكن عادية، بل موسومة بالتمرّد الجمالي والانحياز للمهمّشين والمظلومين.
ارتبط اسمه باسم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وجعل من العود وسيلة مقاومة، ومن اللحن وثيقة احتجاج. أغنياته ليست فقط للإنصات، بل للتفكّر، للتأمل، وللرفض… وللحب أيضًا.
تكريم مارسل خليفة في وجدة لم يكن فقط اعترافًا بإرثه الفني، بل كان أيضًا احتفاءً بروابطه المتينة مع المغرب، أرضًا وشعبًا وثقافة. لطالما عبّر الفنان الكبير عن حبه العميق لهذا البلد، وتغنّى بسحر مدنه، من طنجة إلى مراكش، حيث أحيا حفلات راسخة في ذاكرة الجماهير.
كان دائم الحديث عن الإلهام الذي تمنحه له الثقافة المغربية، بتعدديتها وأصالتها. في أكثر من مناسبة، قال إن الموسيقى المغربية ألهمته، وإنه يجد فيها مزيجًا نادرًا من الحنين والحداثة، من الجذور والآفاق.
تكريم مارسل خليفة في مهرجان سينمائي لم يكن صدفة، بل دلالة رمزية عميقة.
فعندما تلتقي السينما بالموسيقى، تكتمل صورة الفن كوسيلة مقاومة، وكأداة لبناء الجسور بين الشعوب والثقافات. لحظة تكريمه كانت أيضًا لحظة للتأمل في معنى الفن في زمن الحرب، في وظيفة الجمال وسط الدمار، في قدرة القصيدة واللحن والصورة على أن تكون ضوءًا في عتمة هذا العالم.
وفي كلمته خلال التكريم، قال مارسل خليفة: هل من مكان اليوم للسينما، للشاعر، للموسيقى وسط هذا المشهد المرعب من الدمار والأنقاض؟ … ذلك بالضبط هو الخلاص، ذلك هو الرجاء… كل فيلم، كل قصيدة، كل نوتة موسيقية تُضاء الآن، هي شمسٌ كبيرة تعيد إلينا الحب والكرامة والحرية.”
كلمات تختصر فلسفة خليفة: الفن ليس ترفًا، بل ضرورة. ليس هروبًا من الواقع، بل مواجهة له بأكثر الوسائل رقيًا وإنسانية.
كما في أغانيه، كانت فلسطين حاضرة في كلمته، في وجدانه، في نبرة صوته الذي اختنق ألمًا. خاطب غزة قائلاً: يا أيها الشرح في صدورنا… خذلناك فتركناك تدافعين عن نفسك… لم نكن هناك كما كان ينبغي أن نكون.”
لم تكن هذه الكلمات خطابًا سياسيًا، بل نداءً إنسانيًا نابعًا من قلب فنان ما زال يؤمن بأن الكلمة تستطيع أن تقاوم، وأن الموسيقى يمكن أن تشكّل ملاذًا وملحمة.
تكريم مارسل خليفة في المغرب هو تكريم لفنان لم ينفصل يومًا عن قضايا شعبه وأمّته.
وهو أيضًا رسالة من مهرجان وجدة إلى العالم: بأن الفن الملتزم لا يزال له مكان، وأن المغرب، كعادته، يظل منفتحًا على كل من يحمل رسالة جمالية وإنسانية في آنٍ معًا.
إنها لحظة وفاء لفنانٍ عاشقٍ للحياة، للحرية، وللإنسان… فكان في موسيقاه دائمًا ما يعزف للكرامة، للحب، وللأمل الذي لا يموت.






