سيرة “رجل دولة” مع أربعة سلاطين (الحلقة الخامسة عشرة)… “مخزنيّون” و”لا مخزنيّون” في خدمة السلطان

          كتبه: عبد الدين حمروش

 

تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.

(الحلقة الخامسة عشرة)

   في كتاب ” الآداب السلطانية”، وفي الفصل الخاص بمفهوم ” المرتبة السلطانية”، يعرض عز الدين العلام لمواقف المُؤيدين للعمل مع السلطان، والمعارضين له. بالنسبة إلى المُعارضين، ذكر الباحث أن جلال الدين السيوطي يتقدّم فريقهم، من خـلال عدّ ” ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين”   ” تكثيف لمختلف الآراء المُعارضة للعمل مع السلاطين”. وبحسب ما استنتجه العلام، هناك ثلاثة أسس لتبرير مُعارضة خدمة السلاطين:

–        التصور الأخلاقي، وهو الذي يرى صاحبُه “السلطة” في جوهرها مَفسدة؛

–        الحجة الدينيّة، وهي التي يرى مُتبنّيها أن الداخل على السلطان مُعرَّض إلى معصيّة الله؛

–        مبدأ الحياد، وهو الذي يدفع العالم الفقيه إلى اعتزال السلطان، درءا لأمرين عظيميْن: العون على الظلم من جهة، وفقدان المكانة العلمية عبر المخالطة، من جهة أخرى.

وبالعودة إلى الزياني، وبناء على مواقفه التي عرضنا لها، يمكن القول إنه كان من بين المعارضين للخدمة لدى السلاطين. وإن شئنا الدقة، قلنا إن تجربة اختلاط “الرجل” بالسلاطين اكتنفها مساران:

– المسار الأول، توجّه فيه إلى الخدمة السلطانية في مرحلة الشباب، وبخاصة بعد العودة من “الحرمين” رفقة والديْه، وبعد النكبة التي تعرضت إليها الأسرة، وما حصل لها في إثرها من ضيق. في هذه المرحلة، وجدنا الزياني مُتمسّكا بمعارضة موقف والده، الذي حذره من مغبّة الاقتراب من السلطان؛

– أما المسار الثاني، فقد اختطّ فيه ” الرجل” طريق الزاهد في تلك الخدمة، بل والمُعارض الشديد لها. وعلى الرغم من إحاطة الزياني بالأدبيات السلطانية، في هذا الموضوع، سواء أكانت مُؤيّدة أم مُعارضة، إلا أن قراره النهائي جاء نتيجة تجربته الطويلة في خدمة السلاطين، وما طاله عبرها من “نكبات”، على حد تعبيره.

وإذا أردنا أن نقرأ هذه التجربة، بالتركيز على شقّها الزاهد في الاقتراب من السلاطين، وفي ضوء الأسس والحجج والمبادئ التي وصفها الأستاذ العلام، انتهينا إلى أن الزياني كان قد صدر عنها في شتى مواقفه. من ها هنا، جاءت مِحَنُه، أو بالأحرى نُكَبُه. فالالتزام بـ “خط” المُثقف، بما ظل يحمله ذلك من معاني المتابعة النقدية، والنزاهة العلمية، والجهر بالحق، قد كانت تكلفته باهظة عليه نفسيا وجسديّا، جراء ما قاساه من توبيخ، وضرب، وسجن، وتشريد.

بارتباط مع ما سبق، نأتي إلى طرح هذا السؤال الآن: هل كان الزياني مُثقفا مخزنيا أم لا؟ للجواب عن هذا السؤال، يمكن الإحالة إلى الباحث محمد ظريف، وبالتحديد في كتابه ” مؤسسة السلطان الشريف بالمغرب”. الباحث يُقْدم على التمييز بين صنفين من العلماء: المخزنيّون واللامخزنيّون. فِي ما تعلّق بالصنف الأول، فقد رأى أنهم أولئك الذين لا يرفضون التعامل مع المخزن، وفي الوقت نفسه هم الذين لا يمانعون في مُسايرة سياساتة الرسمية. أما فِي ما تعلّق بالصنف الثاني، أي من العلماء اللامخزنيين، فظريف يُنبِّه إلى أن لا وجود لهذا الصنف. العالم “اللامخزني” ليس هو ذلك “العالم” الذي يرفض التعامل مع “المخزن”، لأن هذا الصنف من العلماء غير موجود. وبناء على هذا التعريف، أمكننا أن نستنتج أن أساس التمييز بين المخزني واللامخزني لا يكمن إلا في: مُسايرة السياسة المخزنية، أو في عدم مُسايرتها.

وإذا راجعنا مواقف أبي القاسم، التي اتّخذها وتبنّاها، وعبّر عنها خلال تجربته “خديما” لثلاثة سلاطين على الأقل، وجدناه فيها مُثقفا لامخزنيا، بالمعنى الذي لم يكن يمتنع عليه الجهر بمعارضة السياسة الرسمية للمخزن، في محطات كثيرة كادت تودي بحياته (قاب قوسين أو أدنى). أعتقد أن من هنا، بالتحديد، كانت تنبعُ فرادة “الرجل”، في أصالته السياسية ونزاهته العلمية على حد سواء، نظير العلامة الفقيه أبي علي اليوسي، وإن كان الأخير مَحميّا بعصبية قبيلية لا تُنكر لآيت يوسى.