سيرة “رجل دولة” مع أربعة سلاطين (الحلقة السادسة عشرة)… أُرْكِبَ جملا هزيلا أعرج، حاسر الرأس

     كتبه: عبد الدين حمروش

تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.

(الحلقة السادسة عشرة)

ما حصل للزياني مع اليزيد، سيتكرر حصولُه مع رجل دولة آخر، تولىّ الكتابة والوزارة لدى المولى سليمان في بداية سطوع نجمه. وقد حدث أن عاصر الزياني في بعض سنوات عمره، وتابعه بتعقُّب آرائه ومواقفه، كما اتضح مما سجلناه في أكثر من موضع في هذا المقال البحثي. الأمر يتعلق، هنا، بأبي عبد الله محمد بن أحمد الكنسوسي. ذلك أنه، قبل أيلولة الملك إلى المولى عبد الرحمن بن هشام، كان قد أبدى انحيازه (أو انحياشه بعبارة مُختلفة) إلى أحد أبناء السلطان الفقيد المولى سليمان. ولأن السُّعاة، من المنافسين والحاقدين، لم يكن يخلو منهم بلاط، فقد سارعوا إلى السلطان الجديد بما كان من الوزير الكنسوسي. ولذلك، تم عزله، ومن ثم إشخاصه إلى مراكش.

ظل الكنسوسي مُحْتَرِما بضريح الغزواني، إلى أن حظي بالعفو السلطاني، بعد زيارة المولى عبد الرحمن لمراكش. القصص كثيرة في هذا الباب، حيث يجد رجال الدولة أنفسهم، الوزراء والسفراء والكتاب وقواد الجيش، مُجبرين، أو مدفوعين، أو مُنساقين إلى الخوض في أمور ” ولاية العهد”. لقد ظلت هذه المسألة بغير تسوية نهائية، في تاريخ الدول الإسلامية على تعاقبها، ومنها الدول المغربية المتتالية منذ الأدارسة.

ولذلك، كانت أخطر العصور على استقرار الدول، هي التي ظلت تتلو وفاة السلطان، دون الحسم فِي من يَخلُفه. ما حدث بعد وفاة السلطانين العلويين القويين، المولى إسماعيل وسيدي محمد، لمن أغنى الأمثلة في هذا الباب. وللإشارة، ففي “الترجمانة” بعض من هذا، حين نقل أبو القاسم ما قاله باي وهران، محمد بن عثمان، بعد لقائه به، في إثر فراره من المغرب. وإن لم تتحقق نبوءة الباي، في أمر تشتّت المغرب، إضافة إلى كون ” أولاد مولاي محمد لا تقوم لهم قائمة، ولا يزالون في الحروب بينهم على أن يأتي من يخرجهم عن المغرب”، إلا أنها كانت مُعبِّرة عن خلل ما في توارث الحكم زمَنئذ.

الواقع أن التاريخ الإسلامي حافل بالصراع حول الخلافة والملك. أما ما كان يجري من انتقام دموي، في تلك العصور، حتى وقت قريب، فـ “يشيب له الولدان” كما يقال. ومن مظاهر ذلك ونتائجه، أن كان هناك “إبداع” في طرق التعذيب، من جلد، وضرب بالسيف، وإحراق. ما جرى، تحت حكم اليزيد القصير، من بطش ضد رجال الدولة وقُوّادها وأهلها من العامة، غني عن كل وصف.

وحتى لا نبتعد عن المغرب، يمكن سرد ما حصل لابن الخطيب، الذي سُجن وقُتل خنقا، ثم استُخرجت جُثتُه من جديد لتُحرق. حصلت المأساة تحت عنوان الزندقة. ومما ورد عن ابن خلدون في تاريخه، أن “الحقيقة” تمثلت فِي ما نُقل إلى ابن الأحمر من أن وزيره السابق ابن الخطيب كان يُغري السلطان عبد العزيز (أبو فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني) بإلحاق الأندلس بمُلكه. وقبل أن يبلغ حتْفه، كان ابن الخطيب قد عرض لمحنة وزير السلطان أبي عنان، الحسن بن عمر، في “نفاضة الجراب في علالة الاغتراب”، بعد احتلال بلاد تادلا، ومن ثم القبض عليه، وإرساله إلى العاصمة فاس.

ابن الخطيب سرد ما جرى للوزير الحسن بن عمر، الذي أُرْكِب جملا هزيلا أعرج، حاسر الرأس وقد تصبب عرقا ” وبعد أن استوفى دفاعه، أمر السلطان بإعدامه، فسُحب بالكبول على وجهه، تطرّقت الأيدي إلى لحيته، ثم اقتيد إلى باب السبع حيث نُفِّذ فيه الإعدام طعنا بالرماح، ثم صلب جسده بباب المحروق (حيث أحرق جثمان ابن الخطيب نفسه، ولم يكن يعلم بما هو صائر إليه مصيره من بعده)، وظل هناك أياما إلى أن أُمِر أهلُه بمواراته” (نقلا عما جاء في عرض محتويات ” نفاضة الجراب”).

أحصى الزياني سبع نكبات تعرّض لها، في مسيرته الطويلة التي أشرف فيها على المائة سنة من عُمره. وخلال ذلك، هاجر إلى الشرق كما إلى الغرب. وقد حدث أن غادر المغرب مُكرها مرّتيْن. الأولى، رافق فيها والديه إلى الحرمين الشريفين، بعد المرحلة الصعبة التي تلت وفاة المولى إسماعيل. أما الثانية، فقام بها وحده دون أهله، بعد هجوم الأعراب عليه مبعوثا إلى وجدة واليا. وخلال كل ذلك، ظل الإحساس يرافقه بثقل المهام المخزنية، وأقدارها المأساوية المُتربّصة، في هذه المرحلة أو تلك من مسيرته.