
بقلم: محمد خوخشاني

كان اليسار المغربي، منذ ستينيات القرن الماضي، يمثل الضمير الاجتماعي للمجتمع، وصوت الفئات الكادحة والمهمّشة. لكنه اليوم يعيش أزمة ثقة غير مسبوقة، بعدما ابتعد عن هموم الطبقات التي كان يدّعي الدفاع عنها، وتحوّل بعض قادته إلى مجرّد فاعلين إداريين داخل مؤسسات الحكم.
من المعارضة إلى الترويض داخل السلطة
حين تولّى عبد الرحمن اليوسفي رئاسة حكومة التناوب سنة 1998، شعر المغاربة بأن مرحلة جديدة من الديمقراطية قد بدأت. غير أنّ هذا الأمل سرعان ما تراجع تحت وطأة التوازنات الاقتصادية والسياسية.
تحوّل اليسار، ممثلاً خصوصاً في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP) وحزب التقدّم والاشتراكية (PPS)، من حركة اجتماعية تطالب بالإصلاح إلى شريك في حكومات لا تملك هامشاً كبيراً للمبادرة، ما أفقده جزأً كبيراً من مصداقيته.
أرقام تعبّر عن التراجع.
في الانتخابات التشريعية لسنة 2021، حصل الاتحاد الاشتراكي على 34 مقعداً، وحزب التقدّم والاشتراكية على 22 مقعداً فقط من أصل 395. أرقام تعكس التراجع الكبير لليسار مقارنة بعقود سابقة، حين كان يشكّل قطباً أساسياً في المشهد السياسي والنقابي المغربي.
حتى في المدن الكبرى التي كانت تُعتبر معاقل تقليدية له، مثل الدار البيضاء والرباط وفاس، فقدت الأحزاب اليسارية حضورها لصالح أحزاب ذات توجه ليبرالي أو شخصيات مستقلة.
النقابات… نفوذ متراجع وغضب متصاعد.
النقابات القريبة من اليسار، مثل الاتحاد المغربي للشغل (UMT) والكونفدرالية الديمقراطية للشغل (CDT) والفيدرالية الديمقراطية للشغل (FDT)، لم تعد تمتلك الزخم الشعبي الذي ميّزها في الثمانينيات والتسعينيات.
لكنها ما تزال تظهر في محطات احتجاجية كبرى، أبرزها إضرابات الأساتذة المتعاقدين وحركات الغضب في قطاعات الصحة والتعليم.
ورغم هذا الحراك، تبقى معظم هذه التحرّكات خارج الأطر النقابية التقليدية، ما يعكس فقدان الثقة في أدائها وميل الأجيال الجديدة إلى التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أزمة خطاب وقيم.
تتمثّل المعضلة الكبرى لليسار المغربي اليوم في ضياع لغته السياسية. فبعد أن كان يتحدّث عن الكرامة والعدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق، صار يرفع شعارات تقنية مثل «الحكامة» و«النمو الشامل».
تغيّر الخطاب واختفت الروح، فتحوّل اليسار من مشروع مجتمعي إلى مجرّد طرف إداري داخل السلطة.
هل يمكن إنقاذ ما تبقّى؟
ما زال في المشهد بعض بصيص أمل. فـحزب التقدّم والاشتراكية بقيادة نبيل بنعبد الله يحاول استعادة خطابه الاجتماعي، بينما يتحدّث الاتحاد الاشتراكي عن «إعادة التأسيس» و«المصالحة مع الشباب». لكن بدون تجديد للقيادات وتواصل فعّال مع القواعد الشعبية، سيبقى هذا الخطاب مجرّد محاولة متأخرة لتلميع صورة باهتة.
خاتمة
إن أزمة اليسار في المغرب ليست أزمة أشخاص فحسب، بل أزمة مشروع وفكر ومصداقية. ولا يمكن لليسار أن يستعيد مكانته إلا إذا عاد إلى جوهره: الدفاع عن العدالة الاجتماعية، مواجهة التفاوتات، وإعادة الاعتبار لكرامة المواطن البسيط. فمن دون يسار قوي وحرّ، تفقد الديمقراطية المغربية أحد أهم أعمدتها.



