أخبارمجتمعفي الصميمكتاب الرأي

حين تحاكم المصطلحات على مقصلة التاريخ: قراءة تحليلية في أطروحة «الباحث» الجزائري بلغيث حول «الأمازيغ» و«البربر»

بقلم: زكية لعروسي

في مداخلة أثارت جدلا واسعا على شاشة “سكاي نيوز”، خرج علينا «الباحث” الجزائري محمد الأمين بلغيث برؤية جدلية مرتبكة حول مصطلح “الأمازيغ”، معتبرا إياه صناعة استعمارية مستحدثة لم تكن موجودة في المدونات التاريخية قبل العهد الحديث. ليفتح بذلك صندوقا من الأسئلة الثقيلة حول اللغة، والهوية، والمفردة حين تتحول من توصيف إلى مشروع سياسي أو ثقافي.

 

طرح يتكئ فيه بلغيث على حجة لغوية وتاريخية مفترضة، مفادها أن كلمة “أمازيغ” لم ترد في النصوص الكلاسيكية القديمة، سواء عند المؤرخين العرب أو الرومان، إذ أن الأدبيات الرومانية لم تذكر هذا الاسم بصيغته الحالية. لكن غاب عنه أن الأسماء، مثلها مثل النقوش، تخضع للسياقات التي أنتجتها، ولا تعكس بالضرورة الوعي الذاتي للشعوب المعنية. فهل إذا قال الإغريق “ليبيون”، وقال الرومان “نوميديون” و”موري” و”غايتول”، تمحى كل ذاكرة الأمازيغ؟

وهل تختزل هوية شعوب في دفتر شروط الاستعمار اللغوي القديم؟

كما نقول في المثل المغربي، “جاب التيقار وخرج على الطبّال”، فجمع هذا (الباحث) بين قلة المعرفة وكثرة الادعاء، وضرب في عمق هوية عمرها آلاف السنين.

سؤال “فهل الأمازيغ كلمة “لم تكن”؟ أم أن صاحب الأطروحة خلط “العرارم”، كما نقول في المثل المغربي، فجمع الغث بالسمين ومسح ذاكرة شعب كامل بعبارة؟ إنه بهذا الطرح يلامس جوهر معركة رمزية ودلالية حول هوية شعب، ويختزلها في مصطلحات ويتجاهل التاريخ الفعلي على الأرض. والحق أن كلمة “أمازيغ” ليست اختراعا استعماريا كما زعم المتحدث، بل لها حضور تاريخي موثق ومتجذر.

الاسم “أمازيغ”، الذي يعني “الرجال الأحرار”، ليس اختراعا حداثيا كما يدّعي، بل هو تعبير ذاتي استخدمه الأمازيغ لوصف أنفسهم في تقاليدهم الشفوية ونقوشهم الليبية القديمة، حتى وإن لم يرد في الأدبيات الإمبراطورية. وفي هذا السياق، نقول بالمثل المغربي: “لي ما عرفك يجهلك”، ومن يجهل تاريخ شعب بكامله لا يحق له أن ينصب نفسه قاضيا على هويته.

أما مصطلح “بربر”، فقد كان منذ نشأته الرومانية محمّلا بالدونية، إذ أطلقه اللاتينيون على كل من لا يفهمون لغته، وجرى تداوله لاحقا في الأدب العربي دون اتفاق على دلالته. ومع ذلك، لم يمنع هذا من أن يحتفي ابن خلدون بالأمازيغ، ويؤرخ لدولهم وفتوحاتهم، وهم الذين خطّوا حضارة امتدت من الأطلس إلى الأندلس.

فالمؤرخ ابن خلدون، رغم استخدامه لكلمة “بربر”، أشار صراحة إلى أن هذه الشعوب تُسمي نفسها “أمازيغ”. كما أن نقش “النمروسيين” في الجزائر، العائد للقرن الثالث الميلادي، يذكر لفظ “مازيغ” بوضوح. والوثائق الليبية القديمة تحمل الجذر M-Z-G، ما يدل على استمرارية ذاتية في التسمية منذ قرون طويلة.

المفارقة أن الجدل القائم حول “الأمازيغ” أو “البربر” هو في جوهره صراع دلالات، لا صراع وجود. فالكلمات تتغير، والشعوب تبقى. الكيان لا يمحى لأن مصطلحا غاب عن مدونة. وكما يقول المثل الشعبي: “ماشي كل من حمل قفة ودار فيها كتوبة، ولى فقيه”، فليس كل من نطق بالتاريخ يُؤتَمَن عليه.

الاستعمار الفرنسي، صحيح، حاول تشكيل صورة فولكلورية عن الأمازيغية، لكنه لم يخترع الكيان من العدم. “اللي زينتو زمان ما يشطبوش عليه ريح الشتا”، كما نقول. لا يمكن لمجرد غياب المصطلح في أدبيات الرومان أو العرب أن يلغى وجود حضاري وثقافي ضارب في القدم.

بلغيث يتكئ على قراءات انتقائية، ناسيا أن الرومان أنفسهم أطلقوا تسميات من منظورهم الخارجي: “الليبيون”، “النوّميديون”، “الموري”، “الغايتول”… كلها تسميات سياسية وجغرافية لا تلغي الخصوصية الثقافية للشعوب التي كانت تقطن شمال إفريقيا. ثم إن مصطلح “بربر”، كما هو معروف، ولد في حضن التحقير الروماني لكل من لا يتحدث لغتهم، وانتقل إلى الأدب العربي محملا بما بين التصنيف والوصف.

ومرة أخرى، كما يقول المغاربة: “اللي ما عندو همّ، يربي طيور الحبّ”، فقد قرر بلغيث أن يُنظّر لهوية لم يعشها، ولم يقرأها إلا من نوافذ مستعارة. أطروحته تتعامل مع المصطلح كما لو كان هوية كاملة، متناسيا أن الهويات لا تختصر في أسماء. الفرس اليوم إيرانيون، الجرمان ألمان، والزنوج أفارقة… فهل تغيّر الاسم غيّر الوجود؟ طبعا لا.

الهوية لا تمحى بغياب لفظ، بل تكرّس بالتجذر التاريخي والإسهام الحضاري. فالأمازيغ، أو البرابرة، أو النوميديون، مهما اختلفت التسميات، ظلوا أبناء الأرض، لا يعَرّفون فقط بالكلمات بل بالأفعال. “ما يحك جلدك غير ظفرك”، وتاريخ الأمازيغ لم يكتبه مستشرق، بل دوّنه الزمن، في الجبال، وفي النقوش، وفي الفتوحات.

أما قول بلغيث بأن المصطلح “صناعة استعمارية”، فهو كمن قال: “شدّو المجنون حتى يعقل”، إذ أنه لا يفرّق بين المصطلح كرمز ثقافي، وبين الكيان كحقيقة بشرية عريقة. الكلمة تتغير، نعم، لكن الأصل لا يلغى.

أطروحة نحيفة، في حقيقتها، ليست إلا محاولة يائسة لطمس الكيان الأمازيغي عبر سفسطة لغوية لا تصمد أمام تراكم حضاري وثقافي موغل في القدم. فالهويات لا تصنع بمفردة، ولا تلغى بمقال، بل تبنى على الجذور، على الأرض، وعلى نبض الشعوب. ومن أراد أن يشكك في اسم، فليتفضل ويقرأ التاريخ لا من مقصلة الاستعمار، بل من ضمير الشعوب.

قارئي العزيز الامازيغي والعربي والحساني، بل اقول المغربي، بين الهوية والمصطلح، من يبتلع من؟ وهل كلمة يمكنها طمس ذاكرة شعب؟ “كثرة الهضرة كتخلط الشكوة”، لذلك لندع التاريخ يتكلم، لا الرأي الشخصي المغلف بزي علمي زائف.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci