
بقلم: زكية لعروسي

في مشهد يكاد يكون مسرحيا، تصر الجزائر على إثبات أنها لا تكتفي بمشاكلها الداخلية، بل تسعى بكل جهد (ودبلوماسية!) لاختراع أزمة دولية جديدة تضاف إلى قائمة طويلة من الإنجازات غير المطلوبة. آخر الإبداعات؟ صدمة، احتجاج، ثم غضب رسمي عارم بسبب… توقيف موظف قنصلي في فرنسا، متهم بالمشاركة في اختطاف إنفلونسر معارض!
لكن مهلا، لم يكن ذلك مجرد اختطاف عادي، بل مرتبط بـ”نشاط إرهابي” بحسب المدعي العام الفرنسي. وهنا، وبدل أن تسأل الجزائر نفسها كيف ولماذا، خرجت ببيان حارق يحتج على “التصرف اللامقبول وغير المؤهل”، مهددةً بعواقب وخيمة، وكأنها تُذكّر باريس بأنها قادرة على إعادة كتابة كتاب “كيف تصنع أزمة دولية في 24 ساعة”. يقول المثل الشعبي: “اللي ما يقدر على الحمار يتشطر على البردعة”. ويبدو أن الدبلوماسية الجزائرية أخذت هذا المثل كخطة عمل، فبدلا من مواجهة الواقع ومساءلة النفس عن تورط موظفها في قضية اختطاف معارض على الأراضي الفرنسية، فضّلت أن تصبّ جام غضبها على العدالة الفرنسية، بحجة… “السيادة الدبلوماسية”!
أما فرنسا؟ فبرد دبلوماسي قارس كشتاء باريس، اكتفت بالرد بجملة قصيرة أشبه بـ”دبلوماسية القفاز الأبيض”: “العدالة مستقلة ونحن لا نتدخل”، أي “ما دخلناش، رُوحوا للِّي قْبَضْ عْلِيه”. لكن في الجزائر، كلما وقع أحد “الخواص” في قبضة العدالة الأجنبية، تحوّلت الخارجية إلى منبر احتجاجي يصيح فيه الجميع: “أُوفف! كيفاش؟! إهانة للسيادة!”
المثل يقول: “ما يطيح غير الشاطر”، لكن الظاهر أن “الشاطر” هذه المرة وقع من فوق شجرة العلاقات الفرنسية الجزائرية الهشة أصلا، ليُخلّف أزمة لا ناقة للمواطن فيها ولا جمل.
الفارق الكبير: في باريس، القاضي لا يتلقى التعليمات من الخارجية؛ بينما في الجزائر، يبدو أن السياسة هي من يكتب مسودة الأحكام مسبقا.
ومن المثير أن هذا الحماس المفاجئ في تحريك وزارة الخارجية الجزائرية لا يظهر حين يتعرض مواطنوها لمشاكل في الخارج، بل فقط عندما يمسّ أحد ممثلي النظام… حتى لو كان متهما بالقيام بما يعجز عنه كتاب السيناريوهات البوليسية.
فبدلا من ممارسة السياسة بنضج وهدوء، فإن الديبلوماسية الجزائرية اختارت طريق “الشكاوى السرية والبيانات النارية”، وكأنها تطبق حرفيا المثل: “اضرب وابقى اسأل: شكون ضرب؟”.
وفيما تتحدث فرنسا عن القضاء المستقل، تتصرف الجزائر وكأنها تذكّر باريس بمبدأ لم يسمع به أحد سوى في كتب التاريخ الدبلوماسي البائد: “الدبلوماسي لا يسأل، ولو سرق الشمس من السماء”. لكن يبدو أن الزمن تغيّر، واللعب اليوم صار على المكشوف… ومن تلطخت يداه لا ينفعه جواز أخضر ولا ختم قنصلي. يقولون: “اللي دار الذنب يستاهل العقوبة”، لكن في الجزائر، العقوبة هي أن يتم القبض على المتورط، أما الذنب؟ فهو مجرّد تفصيل ثانوي في بيان وزارة الخارجية!
فهل كل هذا الضجيج محاولة لأن تجد الجزائر موطئ قدم دبلوماسي حيث فشلت في إثبات وجودها السياسي الواقعي؟ هل صارت القضايا القضائية في بلدان الآخرين مسرحا تسعى فيه الجزائر لتقديم عرض بطولي خارجي، يُنسي الجمهور خيبات الأداء الداخلي؟
بكل صراحة، يبدو أن النظام الجزائري اختار لنفسه دور “الرافض الدائم”، تماما كطفل صغير لا يعجبه شيء، فيصرخ محتجا كلما لم تسر الأمور حسب هواه. الفرق فقط أن الطفل لا يصدر بيانات رسمية ولا يستدعي السفراء!
يبدو أن الجزائر، في بحثها الدائم عن معارك وهمية، تواصل حفر الحفرة التي وقعت فيها منذ زمن… لكنها الآن تفعل ذلك برفاهية “ماركة مسجلة”: صنع في قصر المرادية. إنها لا تزال تجيد لعبة “حبة فوق، حبة تحت” على حد تعبير إخواننا المصريين، تحاول تغطية فشلها في الميدان السياسي المحلي بافتعال أزمات على المستوى الدولي، وكأنها تطبق الحكمة المقلوبة: “إذا غابت الإنجازات… الصرخة اتنجيك!”، او “يا جبل ما يهزك ريح”… إلا لما يتوقف موظف قنصلي!






