
بقلم: زكية لعروسي

لطالما كان العقل العربي وقودا للحضارة الإنسانية، فقد أضاء العالم حين كانت أوروبا تتخبط في عصور الظلام. قاد العلماء والفلاسفة العرب نهضة فكرية شاملة، من الطب إلى الفلك، ومن الفلسفة إلى الهندسة، وتركوا بصمة لا تمحى في تاريخ البشرية. لكن اليوم، نجد أنفسنا أمام تساؤل حارق: لماذا تراجع الفكر العربي رغم هذا الإرث العلمي الهائل؟ ولماذا تتبنى بعض العقول العربية عقلية انهزامية تنكر قدرتها على النهوض مجددا؟
لقد أنجب الفكر العربي أسماء خالدة مثل ابن سينا، الخوارزمي، ابن الهيثم، وابن خلدون، وغيرهم ممن شكّلوا أسس العلوم الحديثة. هذه العقول لم تكن محض صدفة، بل جاءت كنتيجة لعصور ازدهرت فيها الترجمة، والنقد، والتجريب، والبحث العلمي الجاد. كانت بغداد، ودمشق، والقاهرة، والأندلس مراكز فكرية تنافس أعظم أكاديميات العالم اليوم.
لكن، مع مرور الزمن، بدأت ملامح التحول في البنية العقلية العربية. فبعد أن كان العقل البرهاني القائم على البرهان والتجريب والاستدلال المنطقي هو المحرّك للفكر، أُُقصِي هذا النمط لصالح العقل البياني، وهو العقل الذي يقدّس النص، ويغرق في البلاغة واللفظ، ويقيم سلطته على المحسنات لا المعاني، وعلى الشكل لا الجوهر. فحلّ البيان محل البرهان، وأصبح النص يُقرأ ليُبجّل، لا ليفهم أو يُفكّك.
هيمنة هذا العقل البياني ـ الذي يعلي من سلطة الحفظ ويخشى النقد ـ كانت من أبرز ما عرقل مسيرة الفكر العربي. لقد حوّل المعرفة إلى طقوس لغوية، وجعل من اللغة سجنا للمعنى لا أفقا له. فالأسئلة ممنوعة إن مست النص، والشك رجس إن طال التقليد، والفكر مريب إن لم يكن في حضن البلاغة. وبهذا، أصبح الفكر العربي معطوبا، تتجاذبه عاطفة الماضي، وتكبّله رهبة من الحاضر.
مع مرور الزمن، بدأت ملامح التحول في البنية العقلية العربية. فبعد أن كان العقل البرهاني ـ القائم على البرهان والتجريب والاستدلال المنطقي ـ هو المحرّك للفكر، عوضه من جديد العقل البياني، وهو ما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مشروعه الكبير “نقد العقل العربي”، حيث صنّف هذا النمط بوصفه عقلا يعلي من شأن النصوص، ويمجد البيان والبلاغة، ويؤسس سلطته على المحفوظ والمنقول، لا على البرهان والعقل.
بحسب الجابري، فإن العقل البياني هو عقل سلطوي بطبيعته، مرتبط بالخطابة والفقه والكلام، لا يسعى إلى التجاوز أو المساءلة، بل إلى الشرح والتبرير. وقد كانت لهذا النمط دور في إضعاف الحس النقدي داخل الثقافة العربية، فحلّ البيان محل البرهان.
هذا النمط من التفكير ساهم في تحويل المعرفة إلى طقوس لغوية، وجعل من اللغة سجنا للمعنى لا أفقا له. فالأسئلة ممنوعة إن مست النص، والشك رجس إن طال التقليد، والفكر مريب إن لم يكن في حضن البلاغة. وهكذا، عرقل العقل البياني انطلاقة الفكر العربي المعاصر، إذ كبّل القدرة على التجديد، وكرّس الخوف من العقل التجريبي الذي قاد العالم إلى التقدم.
فالجابري يرى أن النهوض بالفكر العربي يستلزم تفعيل العقل البرهاني، وهو النمط العقلي الذي ازدهر في الغرب مع أرسطو، وفي الحضارة الإسلامية مع ابن رشد، ويعتمد على الملاحظة، والتحليل، والتجريب. إنه عقل يرفض التسليم بالسلطة المعرفية القائمة، ويسعى إلى كشف مبدأ الأشياء من داخلها، لا من النصوص المحيطة بها.
امام هذا الواقع، هناك من يبرر هذا التراجع بعبارات مثل “العالم ضدنا”، أو “نحن شعوب غير قادرة على النهوض”، متناسين أن هذه المنطقة ذاتها هي التي أنجبت أعظم المفكرين والمخترعين في التاريخ. فكيف يمكن لمن كتب أول موسوعة طبية، وصاغ نظريات الجبر، وأسس علم الاجتماع أن يقتنع اليوم بأنه غير قادر على التقدم؟
العقلية الانهزامية ليست إلا نتاج تراكمات من الإحباط السياسي، والانهيار التعليمي، والخوف من النقد والتغيير، لكن أيضا هي نتاج استمرار هيمنة العقل البياني، الذي يقيس الفكر بمعايير الفصاحة لا الفائدة، ويقصر الإبداع على تكرار ما قيل لا على تجاوزه. فكيف إذن نستعيد مجدنا الفكري؟
لا يكفي أن نفتخر بتاريخنا العلمي، بل يجب أن نحول هذا الإرث إلى طاقة للنهوض. ولا يكفي أن نحفظ المتون، بل لا بد أن نعيد تفعيل العقل البرهاني الذي أنتجها. فإعادة إحياء الفكر العربي لن تكون عبر التمجيد الأجوف، بل بالاستثمار الحقيقي في التعليم، والبحث العلمي، وتشجيع حرية الفكر والتساؤل، وتفكيك البنية التقليدية التي يكرسها العقل البياني. نحن بحاجة إلى بيئة تفكر لا تُلقِّن، وتنتج لا تستهلك.
إن الفكر العربي اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يبقى حبيس اللغة المنمّقة والحنين العاجز، أو أن يبعث في ذاته تلك الروح البرهانية التي صنعت حضارته. الإرث موجود، والقدرات كامنة، لكن يبقى السؤال المصيري: هل نملك شجاعة التحرر من سلطة البيان، ونستعيد سلطان البرهان؟


