فنون و ثقافةكتاب الرأي

هل للجن جمال؟ أمي «خيرة» وعبارة «فيه أو فيها زين الجنون»

بقلم: زكية لعروسي

في البداية، نطرح السؤال المربك: هل للجن جمال؟ وهل يمكن لهذا الجمال أن يكون معيارا لتفسير ما يتجاوز المألوف؟ هذه الفكرة التي تبدو غرائبية ليست بعيدة عن المخيال الشعبي، ولا عن تراثنا الأدبي العريق. فمنذ زمن بعيد، كان الجمال شيئا غامضا، يتأرجح بين الإبهار والرهبة، بين الحقيقة والأسطورة. ولعل عبارة “فيه أو فيها زين الجنون” التي ترددها امي خيرة هي المدخل المناسب لفهم هذا الجمال المربك، الخارج عن الحدود المألوفة للعقل.

الجمال في الثقافة العربية لم يكن أبدا مسألة سطحية أو متجانسة، بل كان يتجاوز الحسن المتناسق إلى ذلك الجمال الذي يشبه الجنون، جمال يثير الدهشة والخوف في آن واحد. فعندما يقول الجاحظ في “كتاب الحيوان” عن إحدى الجواري: “كأنها جان وكأنها خمصانة وسيفانة وكأنها جدل عنان”، فهو لا يصف جمالا مألوفا، بل جمالا ينتمي إلى عالم آخر، إلى عالم الجن، حيث يمتزج السحر بالغموض، ليمنح الجمال بُعدا غير بشري، أشبه بالحلم أو الهلوسة.

الاقتران بين الجمال والجنون ليس مجرد مصادفة. بل هي جدلية عابرة للثقافات. في الفكر الإغريقي القديم، كان الجنون الإلهي (μανία) مصدرا للإلهام الفني والتجلي الروحي، كما يرى أفلاطون في محاورة فايدروس. أما أرسطو، فيعتبر أن التراجيديا تولّد مشاعر التطهير لأنها تغوص في التجارب العاطفية العميقة، التي تشبه الجنون. هذه الفكرة استمرت في الفلسفة الغربية مع روسو، الذي رأى أن المجتمع نفسه يدفع الإنسان إلى الجنون بسبب القيود التي تقتل الفطرة، ومع نيتشه الذي اعتبر الجنون تمردا نبيلا على القيم السائدة، بحثا عن الحقيقة والجمال.

في الفكر الصوفي، يتحول الجمال إلى نور إلهي لا يمكن إدراكه بالعقل. إنه جمال يجعل الروح تهيم في عوالم أخرى، حيث يصبح الجنون حالة من الانخطاف الروحي والانعتاق من قيود الجسد. فالجمال الحقيقي هو الذي يفقد فيه الإنسان إحساسه بالزمن والمكان، لأن روحه ترتقي إلى عوالم عليا لا يمكن للعقل تفسيرها. الجنون هنا ليس مرضا، بل لحظة تجل تفتح أبواب الدهشة والذهول. هذا المفهوم هو ما ينطبق مع الجمال الذي تذكره امي خيرة لغموضه، ولأنه يحمل في طياته شيئا من المجهول، شيئا من الرهبة. لكن لماذا يوصف الجمال بالجنون؟

إن الجمال الحقيقي، كما ترى امي خيرة، لا يمكن أن يكون عاديا أو متوقعا. إنه جمال يفاجئنا، يهزّنا، ويربك حواسنا. هذا النوع من الجمال يذكرنا بشخصيات مثل فان غوخ، الذي كان جنونه جزءا لا يتجزأ من فنه، أو اللورد بايرون الذي عاش كشاعر ملعون، متمرد على القواعد التقليدية. هؤلاء الفنانون لم يسعوا إلى الجمال المتناغم، بل إلى ذلك الجمال المتمرد، غير المكتمل، الذي يحوي شيئا من الجنون. وهذا يعيدنا إلى النصوص المقدسة والأسطورية، حيث كان إبليس كائنا متفردا، جميلا في أصله، قبل أن يتحول إلى رمز للشر.

إن السؤال “هل للجن جمال؟” يثير الدهشة يا قارئي الكريم، لأنه يستدعي تأملا عميقا في مفهوم الجمال الذي يتجاوز حدود المألوف، لا سيما من منظور التصوف، حيث يتحول الجمال إلى نور إلهي غامض وغير قابل للإدراك الحسي المباشر. في هذا السياق، يمكن القول إن الجمال الذي ينسب إلى الجن لا يعني مجرد الحسن الظاهري أو الصورة المثالية، بل هو جمال الغموض، الفتنة، والانخطاف الذي يتجاوز الإدراك العادي.

عند الصوفية، الجمال ليس مرئيا بالعين المجردة، بل هو تجل للأنوار الإلهية. لكنه ليس نورا هادئا أو متناغما، بل نور مباغت ومربك للعقل، تماما كما يوصف الجمال المرتبط بالجن أو الجنون. الحسن البصري، أحد أعلام التصوف، يرى أن الجمال الحقيقي هو ذلك الذي يجعل الروح تهيم خارج حدود الجسد، فتفقد إحساسها بالزمن والمكان، لأنها أصبحت في حضرة الجمال المطلق. وهنا يكمن السرّ: الجمال الذي يشبه الجنون أو يشبه الجنّ هو جمال ينتمي إلى عوالم غير مرئية، حيث لا يمكن للعقل أن يضعه في إطار أو يُفسّره بسهولة.

في هذا الإطار، يمكن أن نرى وصف الجاحظ للجارية بأنها “كأنها جان” ليس مجرد استعارة أدبية، بل إشارة إلى جمال يتخطى الإدراك الحسي المألوف. الجنّ، في المخيال الشعبي والصوفي، ليسوا كائنات قبيحة أو مرعبة بالضرورة، بل كيانات غامضة تحمل في طياتها قدرا من السحر والفتنة. إنهم يسكنون الحدود بين النور والظل، بين الجمال والرعب، بين الجاذبية والخطر. لهذا، يشبّه الجمال الغريب الذي لا يُفسّر بجمال الجن، لأنه جمال مفاجئ ومباغت، مثل وميض البرق أو شعلة تتوهج للحظة قبل أن تختفي، تاركة أثرا لا ينسى.

هذا النوع من الجمال، وفق التصوف، هو تجربة روحية مكثفة، أشبه بالجنون الصوفي أو “الحالة الفنائية” (Fana)، حيث يغيب الإنسان عن ذاته ليصبح شاهدا على الجمال الإلهي في صورته الأكثر إشراقا ودهشة. الجمال هنا لا يخضع للمنطق أو القوالب، بل هو لحظة تجلٍّ مبهرة، مثل رؤية الشمس من مسافة قريبة جدا: شديد، مربك، لكنه يحمل الحقيقة المطلقة.

إذا كان الجمال المعتاد راحة للنفس، فإن الجمال الذي يشبه الجنّ هو اضطراب للنفس، لكنه اضطراب يفتح أبواب المعرفة والدهشة. إنه ذلك الجمال الذي لا نستطيع الاقتراب منه دون أن نصاب بحالة من الذهول والهيام. هذا هو بالضبط ما تعنيه امي خيرة عندما تصف الجمال بعبارتها “فيه أو فيها زين الجنون”. فهي لا تقصد جمالا هادئا ومألوفا، بل جمالا خطيرا، جمالا يشبه نورا لا يمكن النظر إليه مباشرة دون أن يذهل البصر والروح معا.

في التصوف، الجنون ليس عيبا أو نقصا، بل قمة الانعتاق من القيود الأرضية للوصول إلى الحقيقة والجمال المطلق. وإذا كان الجن يمثلون في الموروث الشعبي سكان العوالم الخفية، فإن هذا الجمال الذي يوصف بأنه “جمال الجن” هو جمال الخفاء، الفجاءة، والدهشة. فهل يمكن أن يكون الجنّ رمزا لهذا الجمال الغريب، الجمال الذي لا يرى بالعين لكنه يحَسّ كصدمة روحية؟

الإجابة من منظور التصوف: نعم، لأن الجمال الذي يربك ويخيف هو نفسه الجمال الذي يحمل في طياته الحقيقة الأكثر سطوعا، تلك الحقيقة التي تجعل الروح ترتجف من شدّتها، لكنها لا تستطيع مقاومة الانجذاب نحوها. لكن اليوم، نواجه سؤالا آخر جوهريا: هل فقد الجمال المعاصر “زين اجنون”؟

في عصر المعايير الثابتة والمحددة، أصبح الجمال سلعة يمكن تصنيعها في عيادات التجميل. لم يعد الجمال يحمل ذلك العنصر المفاجئ، الغريب، أو غير المتناسق. أصبحنا نرى وجوها متشابهة، ملامح مصممة وفق قوالب جاهزة: شفاه ممتلئة، أنوف نحيفة، وبشرة مشدودة. الجمال المعاصر فقد روحه، لأنه بات يختزل في صورة مثالية لا مكان فيها للجنون أو الفوضى الخلاقة.

لكن أين هو الجمال الذي يمكن أن نصفه بـ “زين الجنون”؟ أين ذلك الجمال الذي لا يتكرر، الذي يجعلنا نتوقف أمامه بذهول؟

ربما ما نحتاجه اليوم هو استعادة هذا النوع من الجمال الذي يشبه الريح في البرية، الذي يحمل في عيوبه سرّ فرادته، كما كان الجمال في الماضي يشبه “زين السبع” أو “زين الغزال”، جمال لم يكن يخضع لقواعد صارمة، بل ينبض بالحياة.

ما يجعل الجمال لا ينسى هو جنونه، هو خروجه عن المألوف، عن حدود القالب الجاهز. كما قال الجاحظ: “في وجه الجارية ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب”. هذا الحسن الغريب هو ما نفتقده اليوم، في عالم بات يخاف من الغموض ويفضل النسخ المتكررة.

فهل يمكننا يوما استعادة “زين جنون” وسط كل هذا الصخب المثالي، او حتى استعارة هذه العبارة من امي خيرة في زمن اندثرت الملامح وعوضت بمومياوات التماثيل الاصطناعية؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci