بقلم: زكية لعروسي

إذا كان العالم يحتاج إلى من يزلزل قواعده، ويهز أركانه، ويفرض عليه إعادة ترتيب أوراقه، فإن دونالد ترامب هو ذلك اللاعب الفوضوي الذي لا يترك شيئا مستقرا. رجل لا يتبع القواعد، بل يخلقها ثم يهدمها، يشعل النيران ليطفئها، ويعيد بناء الخراب وفق رؤيته الخاصة. وفي اليمن، يعود ترامب إلى المشهد متوعدا الحوثيين بالمحو الكامل، مستهدفا إيران في صراع أوسع، حيث لا مكان للرماد، بل لهيب مشتعلة تكتب فصلا جديدا من لعبة القوة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل ترامب هو الفوضوي الذي ينقذ ما تبقى من اليمن من قبضة الحوثيين، أم أنه مجرد لاعب ماهر يحرق العالم ليعيد تشكيله وفق قواعده الخاصة؟
لليمن جذور ضاربة في عمق التاريخ، فهو مهد الحضارات، وموطن سبأ وحمير، وأحد أعمدة الحضارة العربية التي شهدت أمجادا لا تمحى. لكنه اليوم ليس سوى ساحة حرب مفتوحة، بعدما مزقته مغامرة الحوثيين العسكرية، وحوّلته من أرض الحضارات إلى مسرح لدمار شامل.
حين دخل الحوثيون صنعاء في 2014، رفعوا شعارات التغيير، لكنهم سرعان ما كشفوا وجههم الحقيقي، فبدلا من بناء دولة، فرضوا سيطرة عسكرية طاحنة، استنزفت مقدرات البلاد وأغرقتها في الفقر والجوع والفوضى. لم يكن مشروعهم سوى نسخة مشوهة من الهيمنة الإيرانية، حيث أصبح اليمن مجرد بيدق في لعبة إقليمية كبرى.
أصبح الحوثيون سلطة قمعية، تجنّد الأطفال، وتنهب المساعدات الإنسانية، وتقمع كل صوت معارض، بينما الملايين يعانون من الجوع والمرض تحت حكمهم. لم يكن الخراب الذي أصاب اليمن مجرد نتيجة حرب، بل كان مخططا لخلق واقع جديد، تتحكم فيه الميليشيات بقبضة من حديد، وتحول البلاد إلى قاعدة لإطلاق التهديدات الإقليمية. وسط هذا الخراب، يعود ترامب من جديد ليكسر العظم الحوثي، متوعدا بمحوهم بالكامل. تهديداته ليست مجرد تصريحات جوفاء، بل امتداد لاستراتيجية ترى في الحوثيين ذراعا إيرانيا يجب قطعه.
“سوف يتم تدميرهم بالكامل”، هكذا صرح ترامب، واضعا الحوثيين في مرمى نيرانه، معتبرا أن أي هجوم لهم على المصالح الأمريكية في البحر الأحمر سيقابل برد قاسٍ.
لكنه لا يكتفي بذلك، بل يحمّل إيران مسؤولية استمرار دعمهم، رغم التقارير التي تشير إلى تراجع طهران نسبيا في تمويلهم. بالنسبة لترامب، أي صاروخ حوثي يحمل بصمة إيرانية، وأي هجوم لهم هو امتداد لصراع أكبر يجب إيقافه قبل أن يتسع نطاقه.
هذه ليست مجرد حرب على جماعة مسلحة، بل إعادة رسم للنفوذ الإقليمي، حيث يواجه ترامب إيران في معقل جديد، ويعيد تعريف خطوط المواجهة في الشرق الأوسط.
بالنسبة للحوثيين، المواجهة مع ترامب تعني الدخول في معركة غير متكافئة. فبينما استخدموا على مدار سنوات الحرب تكتيكات الاستنزاف وضرب الأهداف الاستراتيجية، يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة آلة عسكرية أمريكية لا ترحم.
لكن الصراع هنا ليس فقط بين أمريكا والحوثيين، بل هو جزء من مشهد أكبر، حيث تتشابك خيوط السياسة والنفوذ. فهل تكون ضربات ترامب مجرد رد فعل على استفزازات الحوثيين، أم أنها خطوة ضمن استراتيجية أكبر تهدف إلى إعادة ترتيب اليمن والمنطقة وفق قواعد جديدة؟
لا يمكن رؤية ترامب كسياسي تقليدي، فهو ليس مجرد رئيس أمريكي آخر، بل أشبه بآلهة الفوضى في الأساطير القديمة، أولئك الذين يهدمون المدن ليعيدوا بناءها، ويشعلون الحروب ليصنعوا النظام من رمادها. نهجه لا يعتمد على بناء التحالفات القائمة على الثقة، بل على خلق اضطرابات مستمرة، يجعل الجميع على حافة الخطر، ثم يقدم نفسه كصانع الحلول.
لكن يبقى السؤال: هل يكون ترامب هو الفوضوي الذي ينقذ اليمن من قبضة الحوثيين؟ أم أنه مجرد لاعب آخر في لعبة النار الكبرى، حيث تستهلك الدول لصالح صراعات القوة والنفوذ؟
ما بين صعود الحوثيين وسقوط اليمن، بين نيران الحرب وتدخلات ترامب، يبقى المستقبل معلقا على خيط الفوضى. فهل تكون فوضى ترامب خطوة نحو إنقاذ اليمن، أم أنها مجرد فصل آخر من الأسطورة، حيث يحترق العالم على وقع قرارات رجل واحد؟
إذا كان للتاريخ أساطيره، فإن ما هو مؤكد أن دونالد ترامب يكتب واحدة منها، ولكن بأسلوب فريد يعيد تشكيل خريطة العالم بسوط الفوضى، كمن يطفئ حريقا ليشعل آخر، يوازن بين الدمار والترتيب، ويدير السياسة كأنه إله أسطوري يمسك بعصا العاصفة.
لا يهم إن كنت تكرهه يا قارئي أو تعشقه، فترامب ليس مجرد سياسي، بل حالة استثنائية لا يمكن تجاهلها، حتى عندما يبدو وكأنه يقود العالم نحو الهاوية. وتشبيهه بإله الفوضى في الأساطير القديمة ليس ضربا من المبالغة، بل قراءة دقيقة لنهجه الذي يخلخل الأنظمة ليعيد ترتيبها.
ربما سنختلف في حكمنا على ترامب، لكن ما لا شك فيه أن التاريخ لن ينسى هذه الأسطورة السياسية التي تعيد تشكيل اللعبة بالنار والفوضى.