ترامب وإعادة إنتاج أساطير التطهير الجغرافي في سياق غزة

بقلم: زكية لعروسي

في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم بتصريحات حول “إمكانية السيطرة الأميركية على غزة” ونقل سكانها إلى مناطق أخرى، ما استدعى استنكارًا دوليًا واسعًا وتحذيرات من الأمم المتحدة حول إمكانية حدوث “تطهير عرقي”. هذه الفكرة الخطيرة ليست سوى استحضار لأساطير استيطانية تاريخية، تعيد إنتاج مشاهد النفي القسري والهيمنة الاستعمارية بأدوات جديدة، لكنها تحمل نفس الجوهر القديم.

ما طرحه ترامب لا يختلف كثيرا عن أسطورة “الفراغ الجغرافي” التي روّجت لها الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. ففي كل مرة يظهر فيها مشروع استعماري جديد، تبرز ادعاءات حول ضرورة “إعادة البناء” أو “تنظيم” الأراضي، وكأن السكان الأصليين غير مرئيين أو لا يملكون حقوقا راسخة في أرضهم.

تاريخيا، نذكر أسطورة “الأرض الموعودة” التي بررت تهجير شعوب بأكملها، وكذلك “القدر المتجلي” الذي سوغ الاستعمار الأميركي لأراضي السكان الأصليين في القرن التاسع عشر. اليوم، يعيد ترامب صياغة هذه الأساطير في سياق غزة، متجاهلًا حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسانية.

غزة ليست مجرد شريط جغرافي على الخريطة، بل رمز لصمود شعب عربي أصيل. سكانها الذين يتعرضون يوميا للحصار والدمار لم يفقدوا يوما ارتباطهم العميق بأرضهم وهويتهم. محاولة إخضاع هذا الشعب الصامد لمخططات قسرية، سواء كانت تحت غطاء إعادة الإعمار أو بمبررات أمنية، لن تكون إلا مشروعا فاشلا تاريخيا وسياسيا.

ما يثير الريبة هو تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن “نقل السكان مؤقت”، وهو خطاب يذكرنا بحلقات تهجير شعوب بأكملها تحت ذريعة “المؤقت” الذي تحول إلى دائم في العديد من الحالات.

رد الفعل الدولي كان حازما، بدءا من تحذيرات الأمم المتحدة التي وصفت الفكرة بأنها “تطهير عرقي”، وصولا إلى مواقف قوية من الاتحاد الأوروبي والدول العربية، التي أكدت أن غزة جزء لا يتجزأ من أي حل مستقبلي للقضية الفلسطينية. تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كانت واضحة: أي محاولة لنقل الفلسطينيين قسريًا تشكل “انتهاكا صارخا للقانون الدولي”.

في ظل هذه التطورات، يبقى أبناء غزة في مقدمة الصفوف، مدافعين عن أرضهم وهويتهم العربية. كما أظهرت التجارب السابقة، فإن إرادة الشعوب أقوى من أي مخططات استعمارية مهما بلغت قوتها. غزة ليست ورقة تفاوضية ولا أرضا يمكن العبث بمصيرها، بل هي عنوان لنضال مستمر سيظل حيًا في الذاكرة العربية والإنسانية.

ما فعله ترامب يمثل محاولة يائسة لتشويه الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لكنه نسي أن التاريخ لا يرحم، وأن غزة ستظل عنوانا للصمود والكرامة رغم كل المؤامرات.