بقلم: زكية لعروسي
مدونة الأسرة، عبارة أضحت حديث الساعة بين المغاربة، تتردد أصداؤه عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، مستقطبًا آراء متباينة بين مؤيد متحمّس ومعارض غاضب. وبينما يدور النقاش على أرض الوطن، قررت “جريدة الكوليماتور” عبور الحدود واستكشاف نبض الجالية المغربية، تلك الفئة التي تعيش بين ثقافتين، لكنها تظل مرتبطة بوشائج الانتماء للوطن الأم.
خلال نقاشاتنا مع أبناء الجالية بأحد الاسواق الباريسة، بدا واضحًا أن موضوع مدونة الأسرة يثير عواصف فكرية لا تهدأ. أحد أبرز التعديلات التي أثارت الجدل كانت تلك المتعلقة بحضانة الأم المطلقة بعد زواجها. فبينما يُنظر إليها كخطوة لضمان مصلحة الطفل، اعتبرها البعض، كالشاب أسامة، مدخلًا لإحداث اختلال في التوازن بين الجنسين. أسامة، الذي لم يسبق له الزواج، يرى في هذا التعديل تهديدًا لهيبة الرجل قائلاً: “المرأة ستأخذ مكانة أكبر من الرجل، وهذا سيؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج.”
على الجانب الآخر، أطلّ أمين العوني، مهندس شاب في مجال المعلوميات، برؤية أكثر اتزانًا، كمن يحاول أن يجمع شتات العقل والقلب في موازنة دقيقة. أقرّ بقبوله لبعض الإصلاحات، معتبرًا أنها تعكس تقدمًا حضاريًا يعزز مكانة المرأة كأم وأخت وزوجة وابنة. لكنه، في ذات الوقت، لم يُخف قلقه من تداعيات قد تعصف بمؤسسة الزواج، أبرزها مشكلة العنوسة التي قد تتفاقم بفعل مخاوف الرجال من الإقدام على هذه الخطوة المصيرية، في ظل ما يرونه من تغيرات جوهرية في أدوار ومسؤوليات الطرفين.
أما أصوات النساء، فقد أضفت عمقًا خاصًا على الحوار. شيماء، شابة تحمل في كلماتها حماسة الحلم بمستقبلٍ أكثر عدلاً، عبّرت عن إيمانها بأن المدونة الجديدة ستمنح المرأة ثقة أكبر بمؤسسة الزواج، وتحفزها على بناء حياة مشتركة قائمة على الحقوق الواضحة والواجبات المتبادلة. ومن جهة أخرى، جاءت مداخلات أخرى بنكهة التجربة الممزوجة بالتوجس، كما هو الحال مع سيدة صاحبة مخبزة، التي علّقت بقلقٍ حول التعديل المتعلق بإيقاف بيت الزوجية عن الدخول في التركة. ورغم أن هذا الإجراء يهدف إلى ضمان حق الزوجة في البقاء بالسكن بعد وفاة الزوج، إلا أن السيدة لم تُخفِ مخاوفها من أن يؤدي ذلك إلى نزاعات قد تطرد والدة الزوج المتوفى من بيت ابنها، مما يُثير أسئلة أخلاقية وقانونية عميقة حول مفهوم العدالة الاجتماعية وتوازن الحقوق بين الأجيال.
هذا التباين بين أصوات التفاؤل والخوف، بين الترحيب والتحفظ، يعكس طبيعة التحديات التي تواجه مثل هذه الإصلاحات، حيث يبقى تحقيق التوازن بين الإنصاف والواقعية حلمًا يحتاج إلى جهد مستمر وحوار وطني شامل يضع مصلحة الجميع فوق كل اعتبار.
وسط هذا السجال، تظهر بعض التعديلات التي وجدت قبولًا واسعًا، مثل تخويل الأم الحاضنة النيابة القانونية عن أطفالها، واعتبار عمل الزوجة المنزلي مساهمة مالية في الثروة المشتركة، وتسهيل الزواج للمغاربة المقيمين بالخارج.
لكن النقطة المحورية تكمن في غياب التوعية الكافية بين أفراد الجالية. فالكثيرون يحملون فهمًا قاصرًا أو مغلوطًا حول التعديلات، ما يؤدي إلى تأجيج الخوف والريبة بدلاً من تعزيز الحوار البناء.
ما يثير الانتباه هو أن أبناء الجالية غالبًا ما يعيشون بين نظامين قانونيين وثقافتين مختلفتين. فبينما يجدون بعض الإصلاحات مألوفة بحكم عيشهم في أوروبا، لا تزال هناك فجوة في فهمهم للمدونة كإطار يحترم الهوية المغربية.
بين معارض ومؤيد، يبقى السؤال: كيف يمكن تقليص فجوة الفهم بين أفراد الجالية ومدونة الأسرة؟ الإجابة تكمن في توسيع نطاق التوعية والتحسيس، لجعل النقاش أكثر شفافية وموضوعية، ولتمكين الجميع من النظر إلى المدونة كأداة توازن بين الحقوق والواجبات، لا كسلاح يثير المخاوف أو يعمق الانقسامات.
مدونة الأسرة ليست مجرد بنود قانونية جامدة أو عبارات تُصاغ لتُقرأ في المحاكم، بل هي مرآة عاكسة لروح الأمة المغربية، تحمل في طياتها أحلام شعب بأكمله، تطمح إلى غدٍ أكثر إنصافًا وكرامة. إنها الوثيقة التي تترجم التوازن الدقيق بين إرث تقليدي راسخ وقيم حداثية تتطلع نحو العدالة الاجتماعية، حيث يصبح الحرف فيها نبضًا يعكس طموح كل أم، وأمل كل أب، وحق كل طفل. هي مشروع مجتمعي يتجاوز الحدود الجغرافية، ليُلامس مشاعر المغاربة أينما كانوا، موحدًا إياهم تحت راية قيم مشتركة، تعيد صياغة مفهوم الأسرة كحاضنة للكرامة، وحصنٍ للعدل، وركيزة للأمان الإنساني.