بقلم: د. محمد طواع
التفاهة والقبح إسمان أساسيان لتحرير طريق صوب ما يمكن من إعمال للفكر في ما هو منتشر في حياتنا اليومية، مع هذا الزمن الذي استحكم في الإعلام بمختلف مكوناته، وبالخصوص ما يصطلح عليه وسائل التواصل الاجتماعي.
أقول باختصار شديد، إن التفاهة هي إسم آخر لمختلف أشكال اللا-فكر التي تطل علينا من عيون تلك الوسائل كالشلال الذي يتكلم لغة الخوارزميات. وما يترجم هذا الذي نسميه اللافكر، هو ما يسوق باعتباره “محتوى” ، هذه السلعة التي تقوم بسعر وفق نسبة الاستهلاك. والمفارقة هو أننا لا ندري كيف تم خلق هذا الإسم “لأشياء”، في كثير من الأحيان هي بعيدة عن تكون فعلا محتوى بالمعايير الأكاديمية للخطاب والتواصل. كلام بدون كلام، مثل ما يرد علينا وسماه أحد الصحافيين ب “لمعاطية”.
هذا الذي تمت تسميته محتوى، أمسى “مسكنا اعتياديا” في الفهم والتقييم والتذوق والأكثر قوة في ترويض وعي الانسان وكيفيته في الانفتاح على الأشياء، ما يسمح بالقول بأننا أمام “ميتافيويقا” كونية ملتمة، لها من القوة على الدمج والترويض داخل “واحدية كونية” لا تتكلم لغة “الملة” أو “الأمة” أو “التطرف الإثني”…فقط هي تترجم إرادة ميتافيزيقا التحكم والسيطرة والدمج داخل اللحن الواحد والصورة الواحدة ومقاومة التماسف والاختلاف. هذه القوة الميتافيزيقية هي التربة من أين يتغذى اللافكر ويتنفس.
أما القبح، فهو ذلك الإسم الذي ترجم به فلاسفة الإغريق كل أشكال الشر أو النقص والاضطراب، خاصة على مستوى السلوك “المدني” داخل المدينة. من هنا حديثهم عن “التوحش” أو “البربرية” أو عندنا ما يمكن الاصطلاح عليه “نقصا في التمدن“.
نحاول مقاربة هذين الإسمين، فيما نحن نعمل الفكر في سياق “الآن”، سياق الزمن الراهن لنا جميعا داخل عالم اكتسحته التفاهة والقبح.
تروم هذه المقاربة، شق طريق نحو فهم “علاقة” الانسان بذاته وبتمثله للعالم. بحيث نلاحظ حقيقة الاضطراب الذي يعيشه الكائن بوصفه التباسا، بين الطموح المجنح وبين صخرة الواقع، المفهومان الأساسيان لكل تجربة وجودية.
نتابع ما لا يحصى كثرة من صور للقبح في ثير من الأحداث التي تحاصرنا عبر الإعلام وهي تتكلم المأساة في مختلف مناحي الحياة في بعدها الروحي-الوجودي، كالفقر المدقع والظلم، والمجاعة والحروب المدمرة للبشر والحجر والتربة والطير والشجر. وأكثر الصور قبحا وبشاعة هي “قوة الافتراس” التاوية خلف ما ومن يحرك الحروب بالتقنية والقوة في بقاع كثيرة من جهات الأرض. وهو الوضع الذي يخلق الآن حالة من الهلع والترقب لدى كثير من الشعوب, لقد صدق من قال: على من، هو، الدور ات؟ .
أمام ما نتابعه بألم شديد من استفحال للتفاهة والقبح، ومن لون رمادي مرسل علينا من كثير من الأشياء، ومن غبش تسبح فيه الآراء والمواقف والتأويلات والتمثلات بصدد قضايا الراهن، لا يسعنا سوى أن نقول : إن القضية هي مع ميتافيزيقا عصر تمثل قوة أنطولوجية محددة لكل هوية، ميتافيزيقا تعتمد على فواعل كثيرة، الظاهر منها والمتواري، ساهمت وتساهم بشراسة في خلق نوع من “الدوخة” و”التيه” و “التشويش“، على كل القدرات الإدراكية في الرؤية وفهم ما يطل علينا من صور الوجود.
هذا العصر اخذ في بسط قوته القائمة على إرادة قوة التقنية تسعى إلى خلق نوع من الصدمة السيكولوجية لتخرس الألسن وتصم الآذان، ليجد الانسان نفسه يتابع الوضع بسكون طرف وكفى.
في ظل ها الوضع الأنطولوجي المنحدر عن العصر الراهن، يمسي الانسان وكأنه مستجيبا لنداء يريد منه أن يعيش تجربة وجودية شبيهة بوضعية رائد الفضاء، لا يرى العالم سوى عبر عدسة ضيقة لا قيمة لها إلا بالارتباط ب “العالم الأزرق”، بحيث لم تعد هناك تلك العلاقات التي تضفي الدفء والحميمية على العلاقات بين الأفراد: كل واحد يتواصل مع الغير عبر وسائل الذكاء الاصطناعي. خذ صور نووية لهذا الوضع البارد انطلاقا من جلوسك في مقهى أو في مقصورة قطار، ستلاحظ اختفاء الكلام بين الناس، والكل عينه على الشاشة، هاتف أو حاسوب، في انقطاع تام عن الآخرين وعن الواقع “الواقع” من حوله. قد تسمع قهقهة أحد أو ابتسامة آخر، لكن ذلك لا علاقة له بالفكاهة.
وأنت تتابع المشهد، يخيل إليك أنك أمام كائنات فضائية، تسعى على الأرض بدون لسان، لأن كفاية التكلم آخذة في الانقراض، وبدون “عين” لأن هذه لا ترتاح إلا أمام الشاشة، وبدون “أذن” لأن هذه الأخيرة مربوطة على الدوام بالإفتراضي، تستهلك ما تم إعداده سلفا للإستهلاك بدون طلب منك أو استجابة لحاجتك، بحيث أن شلال المعلومة لا يترك ذلك الحق في التسئال لا بحرف لماذا أو كيف. وما معنى أن يفتقد الانسان كامل ملكاته الإدراكية فيما هو يستهلك ما يرسل عليه؟
وضع مثل هذا لا “ينتج” سوى كائنات تداري وتساير الزمن عن طواعية بدون سؤال أو نقد، وهو ما يولد ذلك الموقف الذي تقربه جل روايات ميلان كونديرا من اكتساح التفاهة والقبح و اللامعنى في يوميات الانسان المعاصر. وقد اختزل هذا الموقف الساخر من هذا الانسان بنحته لكلمة جد مكثفة من حيث الدلالة وكثافة السخرية، وهي كلمة” الكيتش”. بحيث أمسى هذا الكائن “قنا مسخرا” ، يسبح في التشابه والنمطية في كل شيء: في الملبس والمأكل وأسلوب تأثيث البيت والكلام المسكوك، بل أكثر من ذلك لقد أصبح يبدل مجهودا لكي يقنع نفسه بأنه جميل في كل شيء من دون أن ينتبه بأن المرآة متكسرة. هو مطالب بعد الآن أن يتشابه وأن يكون حذرا من كل خروج عن القطيع، لأن الازدراء سيأتيه من كل حدب وصوب. لكي تنتمي عليك أن تتحول إلى مجرد حبة رمل تتحرك وسط ما آخذ في التصحر، من قوة انتشار القبح واللافكر.
لقد نبه الشاعر، وهو يصرخ في وجه هذا الزمن الضنين، إلى أن لا تشابه إلا للرمال. لأن من شأن ذلك أن يفضي إلى خلق كائنات بدون ملامح، تلك التي كانت وراء ابتكار الانسان الأصيل للثقافي والفني والشعري والفكري ليشهد على عبوره، بكل ندية وإبداعية، للأرض التي شيد عليها أثر مقامه.
ما يسوغ هذا الكلام في مجمله، هو ما نتابعه من الاجتهاد، بدون هوادة، من طرف من ينعتهم هيدجر ب “موظفي التقنية” ، هؤلاء “الخبراء”، الذين يترجمون نداء هذا العصر بلغة واحدة، وهي لغة الأرقام فقط، في مختلف المشاريع، وفي ما يتخذونه من “قرار”، ويقيسون كل شيء بمفهوم “العائد” المادي السريع. وإلا ما الميزانيات التي ترصد للثقافة وصناعة الكتاب؟ وما الوضع الاعتباري للفن وللشعر والفكر ولكل القوى الروحية التي من شأنها حماية الادمية والكرامة والحق لهذا الكائن الذي تهدد التفاهة والقبح كينونته؟
للتفاؤل أقول مع الشاعر: في كل زمان، حيثما هناك ما يهدد، هناك بذور الانقاذ. هذا هو لغز حقيقة الوجود وسر لغتها باعتبارها لغة الوميض.