بقلم: الدكتور حسن الطويل
أصدر “مختبر المغرب والبلدان المتوسطية” كتابا جماعيا، شارك فيه ثلة من الأساتذة والباحثين، من داخل الكلية ومن خارجها. ويأتي الكتاب ضمن أهم الكتب، التي أصدرها المختبر، بل أهمها على صعيد كلية الآداب بالجديدة. فعلاوة على حجم الكتاب، الذي يكشف عن العدد المعتبر من الباحثين المشاركين، فإن الموضوع المطروق، الذي يقارب التأريخ لأهم الزوايا في المغرب، ينم عن نوعية الكتاب، من حيث طبيعة الموضوعات المقاربة.
غير أن الكتاب، وهو يتناول في مقالاته وأبحاثه ظاهرة الزوايا في المغرب، من وجهة نظر تاريخية، لا يجد بدا من التطرق إلى مساهمات أحد أقطاب هذه الوجهة من البحث الأكاديمي، ألا وهو الأستاذ أحمد الوارث. وإذا كان من اعتراف بجميل الأستاذ الوارث على كلية الآداب بالجديدة، وعلى تاريخ الزوايا الطرقية بالمغرب، فليس أقله مما أصدره المختبر في هذا الباب، تكريما له على جهوده البحثية، وعلى اضطلاعه بالإشراف على العدد الوفير من الأطاريح الجامعية، وكذا التكوين في هذا التخصص النادر.
إن قيمة أبحاث الأستاذ الوارث الأكاديمية، التي أصدرها حتى هذا التاريخ، تعود إلى أمور متعددة، نجملها في النقط التالية:
- تفرُّده بالبحث في مجال تاريخي، ظل تناوله قليلا من قبل الباحثين في مجال التاريخ؛
- اختصاصه بتاريخ الزوايا والطرق بالمغرب، بالنظر إلى فاعليتها في إدارة كثير من الأحداث (السياسية والاجتماعية والاقتصادية)، مغربيا، وعربيا، وإفريقيا؛
- اهتمامه بالتأريخ للأحداث والوقائع المغربية، على تعاقب أزمنتها وأعصرها، من وجهة نظر خاصة ومحددة، من منطلق التأريخ للزوايا والطرقية بالمغرب.
إذاً، يبدو أن الإقرار بمركزية الزوايا، على صعيد جريان الأحداث السياسية، واضح ومؤكد. ويمكن الإحالة إلى المرابطين، باعتبار أن منطلق دعوتهم كان من الرباطات. يختلف حضور الزوايا على الصعيد السياسي، بحيث يظهر في طليعة الفاعلين على مسرح الأحداث، أحيانا، ويخفت إلى حد التحول إلى مجرد نوع من التربية الروحية الخالصة (لا غير) أحايين أخرى. وفي مقالات هذا الكتاب الجماعي ودراساته إشارات كثيرة إلى هذا الجانب، أي إلى تقاطع حركية الزوايا مع حركية الوقائع السياسية.
لقد كرس الأستاذ الوارث مجهوداته الأكاديمية في التأريخ للزوايا، جمعا، وتوثيقا، وتحقيقا، وترجمة، وتحريرا، بالتركيز على مجموعة من العناوين: المناقبية، الأدوار الاجتماعية والسياسية للزوايا، تصوف العوام، البِدَعِيّة، ترجمة أعلام التصوف، إلخ. ومن باب الإشارة المفيدة، أن الأستاذ الوارث غطى، بمقالاته وأبحاثه معظم زوايا المغرب، وإن مالت الكفة الجغرافية إلى منطقتين: قبيلته ببني زروال، حيث الزاوية الدرقاوية.
إن مجال البحث في الزوايا الطرقية بالمغرب واسع وغني. وإن كان ذلك مما يجلب الإفادة للباحثين الأكاديميين، لقراءة تاريخ المغرب من وجهة نظر مختلفة، فإنه مما يجلب الإفادة ذاتها للمهتمين غير الأكاديميين أيضا. ذلك أن الحضور الصوفي، ممثلا في طُرقيّة الزوايا، وإن ظل مستترا في كثير من السلوكيات والمسلكيات الاجتماعية، إلى جانب بعض التمظهرات الاحتفالية هنا وهناك، إلا أنه يشكل عنصرا مركزيا في شخصية شعب وتكوينه.
لقد كانت لمقالات هذا الكتاب الجماعي وأبحاثه، إضافة إلى الكشف عن تقاطع الدين (الصوف) بالسياسة، جوانب أخرى من الأهمية ذاتِها. ففي الكتاب، يقرأ المهتم عناوين في غاية الطرافة: الأولياء والعنف ضد الحيوانات، الأولياء والحمير، التصوف النسوي، الطقوس الجنائزية، إلخ. إن أهمية الكتاب الجماعي، حيث الأبحاث فيه تتقاطع كثيرا أو قليلا مع أبحاث الأستاذ الوارث، تتجلى، إضافة إلى بعدها التاريخي، في بعدها الأنتربولجي. ومن هنا، تأتي أهمية هذا الكتاب المشتركة، ومركزيته باعتباره أحد المصادر المعتبرة في باب: الزويا والطرقية بالمغرب.
ولنقترب من محتويات الكتاب، من المفيد التوقف عند طبيعة بنائه. ففي الفهرس الموجود في بداية الكتاب، نطالع أن هناك أربعة محاور، هي كالتالي:
- الأول: قراءة في أعمال الأستاذ أحمد الوارث؛
- الثاني: التيار الصوفي بالمغرب: المصادر والتنوع؛
- الثالث: التصوف، الخلفيات السياسية والأدوار الاقتصادية والاجتماعية؛
- الرابع: الصلاح وآثاره في المجال.
باستثناء المحورين، الأول والأخير، اللذين ضما أربع دراسات وثلاثا، فإن المحورين الآخرين ضما إحدى عشرة دراسة وثمانا، على التوالي. ولعل هذا التعدد في المحاور، علاوة على تعدد الدراسات، هو الذي يبرر حجم الكتاب الكبير، الذي بلغت صفحاته ستمائة وثلاث عشرة صفحة. ومن المؤكد أن هذا الحجم الضخم يبين المرجعية الأكاديمية للكتاب القصوى. وإذا أضيف إلى ذلك أن طول الدراسات المشارك بها، هي من إنتاج أكاديميين باحثين في الموضوع، ظهرت فرادة الكتاب من حيث قيمته العلمية.
قارب المشاركون في الكتاب موضوعات مختلفة، توزعت على المحاور المذكورة أعلاه. ومن خلال استعراضها واحدا واحدا، نستطيع إعادة تقديمها على النحو الآتي:
1- تكريم الأستاذ أحمد الوارث، المحتفى به في الكتاب، عبر إنجاز قراءتين في كتابين مهمين من كتبه، ألا وهما: “التيار الصوفي بدكالة، زمن الرباطات”، وكتاب ” زاوية الشيخ امحمد بن عمرو المختاري”. أما بالنسبة للمشاركتين الأخرييْن، فجاءت الأولى عرضا مسهبا عن سيرة الأستاذ، بداية بنشأته في بني زروال (دوار تازغدرة)، إلى رحيله إلى فاس طالبا جامعيا، فإلى استقراره بالجديدة أستاذا للتعليم الجامعي. غير أن أهمية هذه المشاركة (التي يبدو أنها من تحرير منسقي الكتاب، الأستاذان عبد الله فلي وقاسم الحادك) تتجلى في عرض واف بالمنجز الأكاديمي للأستاذ، عبر إحصاء كتبه، ومقالاته، وتحقيقاته، وترجماته. ولعل من يطالع العناوين المنجزة من قبل الوارث، حتى تاريخ إصدار هذا الكتاب، سيندهش من غزارة علمه، التي تجسدت في دراسات عديدة. وقد وقف الأستاذ أحمد المكاوي، زميل المحتفى به في الكلية، على جانب من سيرة “الرجل” العلمية، عبر التوقف عند مساهماته في “معلمة المغرب”. وهو في ذلك، عبر جرد مشاركاته في “المعلمة”، إنما يريد أن يؤكد قيمة الوارث العلمية، باعتباره مرجعا لا غنى عنه في مجال تخصصه.
2- في المحور الثاني، أي “التيار الصوفي بالمغرب: المصادر والتنوع”، ستنفتح المداخلات على عناوين علمية متنوعة ومتميزة. وبملاحظة بسيطة، سنجد أن العناوين اختصت بالمجال الصوفي- الطرقي بالمغرب، وإن انفتحت على ما هو خارج نطاقه، أي المجال التونسي والسوداني الغربي. وفي هذه النقطة بالذات، وإن كانت المداخلة تقارب الطريقة الشابية التونسية، من خلال “الفتح المنير”، إلا أن هذا من شأنه أن يوضح الإشعاع الصوفي المغربي على بلاد كثيرة في المشرق العربي، وفي إفريقيا الغربية (السودان الغربي) والشمالية، ولا يستثنى من ذلك تونس (يحال إلى الدراسة التي تحمل عنوان ” مظاهر الصلاح بالساقية الحمراء” في المحور الأخير).
من جهة أخرى، يمكن الإشارة إلى أن هناك بناء هندسيا قد تحكم في عناوين المحور الثاني. ويمكن استيضاح ذلك عبر المعايير التالية:
- المجال الجغرافي: وفيه نلاحظ وجود تنوع في الممارسة الطرقية المحلية: العكاكزة، زاوية مولاي بوعزة الأمغاري، الزاوية الناصرية، إلخ؛
- المجال الأنتربولوجي: وفيه تم تقديم مداخلة مشتركة، همت الطقوس الجنائزية والسحرية لدى المغاربة القدماء؛
- المجال التاريخي: وفيه تم الوقوف على ” ملامح طفولة المغرب من خلال كتب المناقب”؛
- المجال النوعي: وفيه تمت دراسة التصوف النسوي، من خلال عرض تجارب صالحات رباط تيط؛
- المجال الفقهي: وفيه تمت مقاربة الممارسة الصوفية من منظور سلفية الغرب الإسلامي.
3- في المحور الثالث، ستتركز المداخلات على مقاربة الخلفيات السياسية والأدوار الاقتصادية والاجتماعية للزوايا في المغرب. الالتزام بموضوع المحور، كان السمة الارزة لكل هذه المداخلات. غير أن كل مداخلة، على حذة، تشكل محورا بحد ذاتها. ويمكن توزيع المداخلات، حسب الموضوع المقارب، إلى المجالات التالية:
- المجال السياسي: من خلال التوقف عند علاقة التدخل الأجنبي في المغرب بالزوايا، التابعة للنفوذ الخليفي بشمال المغرب، إضافة إلى “الأدوار السياسية والاجتماعية للزاوية الرحالية”، وكذا “الدين والسياسة والمجتمع من خلال رحلة “أسبوع في باريس”؛
- المجال الاجتماعي: من خلال البحث في “صراع قبيلة بني مسارة مع الشرفاء الوزانيين، وانعكاس ذلك على أدوارهم بمنطقة وزان” أواخر القرن التاسع عشر؛
- المجال الاقتصادي: من خلال تناول “مؤسسة الزوايا كمنعش اقتصادي”، بالعودة إلى وثائق حلية ذات صلة بزاوية بلقاسم بن سيدي عياد السوسي”؛
- المجال الديني- الأنتربولوجي: من خلال البحث في موضوع “الأولياء والعنف ضد الحيوانات بالمغرب خلال العصر الوسيط”، و”الأولياء والحمير”، ومجهودات الشيخ أحمد زروق في “تقويم الانحرافات الصوفية”.
4- في المحور الأخير، وهو المحور الرابع، ستتركز الدراسات على البحث في موضوع “الصلاح وآثاره في المجال”. وقد توزّع “المجال” إلى ثلاث:
- الساقية الحمراء، بالتركيز على مظاهر الصلاح، من خلال مزارات الشيوخ المؤسسين؛
- “المدينة” (الغربية) وناحيتها، من خلال الوقوف على مآثر الصلحاء بها؛
- أغمات، من خلال تفحص جدلية البحث الأثر والمقاربة المتحفية.
من خلال كل ما سبق، نتبين قيمة الكتاب الجماعي وأهميته في مقاربة الزوايا بالمغرب. وإن كان المنحى تاريخي وضحا، بالنظر إلى التخصص الأكاديمي، الذي يشتغل فيه معظم الباحثين، إلا أن ذلك لم يكن ليحول دون وجود مناح أخرى للدراسات المشاركة، من أتربولوجية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية. ولذلك، قلنا، منذ البداية، إن الكتاب يشكل مرجعا رئيسا في بابه. ومن هنا، فإن أفضل ما يمكن به تكريم الأستاذ الوارث، نظير ما أسداه للبحث الأكاديمي في الزوايا، هو ضم جملة من الدراسات المتنوعة والقيمة في مؤلف واحد.