بقلم: سعيد بوعيطة
أتاحت مختلف شبكات التواصل الاجتماعي اليوم إمكانات كبيرة أمام الأشخاص بمختلف مستوياتهم وأعراقهم من أجل التواصل، والتعبير عن الآراء والمواقف إزاء قضاياهم المختلفة. حيث أصبحت هذه الشبكات تمثل متنفساً لتجاوز الإكراهات والقيود السياسية والقانونية التي تحد من حرية التعبير. ما جعلها تعجّ بالعديد من المواقف والآراء الجريئة، التي جعلت من بعضها منبراً للدفاع عن الحقوق والحريات، والتعريف بمختلف المشاكل الاجتماعية. مما فرض نمطاً تعبيريا جديداً لا يمكن تجاوزه، بعدما تجاوزت أساليب الرقابة التقليدية ووسّعت من هامش الحرية والجرأة في تناول بعض القضايا الشائكة التي يتم توثيقها بالصورة والصوت ومقاطع الفيديو. لما للصورة اليوم من سلطة على المتلقي كما فصل الباحث القول في ذلك في كتابه (عصر الصورة).
لهذا، نجح بعضها في فضح كثير من مظاهر الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، علاوة على تكسير حاجز الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول والمجتمعات، وترسيخ تواصل تفاعلي يدعم تعزيز النقاش المفتوح إزاء عدد من القضايا والمواضيع. مما فتح آفاقاً واسعة للتأثير في الرأي العام. تحوّلت في ظرف وجيز من قنوات للتواصل إلى آليات مؤثّرة، سمحت بإسماع أصوات فئات مجتمعية عدة، كما أتاحت للمواطن العادي إمكانية الدفاع عن الحقوق العامة والحريات، وإرساء ثقافة حقوقية داخل المجتمعات.
لكن على الرغم من كون حرية الرأي والتعبير مقدسة، بحيث لا يمكن انتهاكها أو خنقها، فإن نسبة هذه الحرية (على مستوى شبكات التواصل الإجتماعية)، قد تغول أغلبها، وأصبح يفتك بحقوق الآخرين، من خلال جعل الحياة الخصوصية منشورة على مختلف المواقع. كما أصبحت حالة المواطن الصحية، وأوضاعه العائلية، وحالته النفسية، وأوضاعه المالية معروضة على شبكات التواصل الإجتماعي. مما جعل أغلبها يتجاوز أخلاقيات النشر والتواصل. ليتحول الأمر من حق التعبير إلى نوع من التسيب. مما يستدعي (حسب العديد من الخبراء) تقييد حرية التعبير في حالات محددة و بموجب القانون؟
حدود حرية التعبير على شبكات التواصل الاجتماعي
إن القوانين المنظمة لحرية التعبير، والتي تهم مجالات الإعلام المكتوب، والإعلام السمعي البصري، تتعرض وباستمرار لحدود هذه الحرية وللقيود المفروضة عليها بموجب القانون. تشمل هذه القيود كذلك حرية التعبير على الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي. وبالإضافة إلى ذلك، هناك قوانين خاصة بهذه الأخيرة، تمت صياغتها، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي. ومضمون هذا الكلام هو أن مجال الانترنيت ليس فضاء فوضويا غير خاضع للقانون، عل الرغم من أن المبحرين فيه يعتبرون أنفسهم مجهولين وغير محددي الهوية. ومن تمة، شعورهم الزائد بالحرية التي يمنحها لهم استعمالهم لشبكات التواصل، ويتعسفون في استخدام هذه الحرية. لكن هذه حقيقة الفضاأت، ليست محل فوضى وغير خاضعة للقانون. لكن هذا الشعور ناتج عن الفكرة الخاطئة التي كونها الأشخاص على الانترنيت.
إلا أن هذا الإشكال يطرح العديد من الأسئلة، أبرزها: كيف يمكن جعل حرية التعبير على شبكة التواصل الاجتماعي محكومة بالقانون؟ وكيف يمكن تطبيق ما يحكم الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية على هذه الوسيلة الجديدة؟ وكيف يمكن تكييف المبادئ الواردة في الإعلانات والقوانين التقليدية مع واقع شبكات التواصل الاجتماعي اليوم؟
بين حق التعبير و التسيب
على الرغم من التطورات التقنية التي دعمت حضور هذه الشبكات داخل المشهد الإعلامي (نسميها إعلاما تجاوزا)، إلا أنها أصبحت تطرح الكثير من الإشكالات، خاصة بشأن القضايا التي تعالجها والمقاربات التي تعتمدها في هذا الصدد، والتي تصل في كثير من الأحيان حدّ المسّ بحقوق الآخرين (أشخاص، مؤسسات، دول، …الخ)، من خلال نشر الإشاعات وإطلاق الأخبار الكاذبة والمضلّلة، والقذف والسبّ والعنصرية وانتهاك الحياة الخاصة للأفراد، والمساس بكرامة وحقوق وحريات الآخرين. حيث يتصوّر الكثير من رواد هذه الشبكات الذين يفتقرون لمقومات العمل الصحفي الاحترافي، وللثقافة القانونية، وكأن هذه الفضاأت الافتراضية التي تمكنهم من فتح حسابات بأسماء حقيقية أو مستعارة، والنشر بلغات مختلفة وتوظيف تقنيات متطورة في هذا الصدد (الفوتوشوب والذكاء الاصطناعي)، غير خاضعة لضوابط القانون.
في الحاجة إلى تشريع قانوني
حاولت الكثير من الدول تجاوز هذه المشكلات عبر إصدار مجموعة من التشريعات التي نحت إلى الموازنة بين ممارسة حرية التعبير، كما هي مؤطرة بعدد من القوانين والتشريعات الدولية من جهة، واحترام حقوق الإنسان ومختلف القوانين من جهة ثانية. فيما قامت دول أخرى بفرض ضغوط على رواد هذه الشبكات، بلغت حدّ الاعتقال، إما بسب خرق القوانين أو في إطار تضييق الخناق على حرية التعبير ومنع ملامسة عدد من القضايا الحساسة والمواضيع الشائكة. لكنها في الآن ذاته، أصبحت موضوع إزعاج وأحيانا انتهاك لحقوق الإنسان وخرق حرمات حياته الخاصة تحت مبرر حرية الإعلام، وحرية الرأي والتعبير، وحرية النشر وتداول المعلومات. وبما أن مواقع التواصل الاجتماعي محكومة بما هو تقني تكنولوجي بالدرجة الأولى، ولا تولي أدنى إهتمام للجانب الإنساني، فإن ذلك يستوجب ضرورة التوفيق بين الاثنين معا (التقني والإنساني)، بما يجعل الأول (التقني) لا يتغول فيتعسف عند استغلاله لما يتيحه من قوة الانتشار، وقدرة الإفلات من المراقبة. لكن ما هي حدود هذه المراقبة الممكنة في علاقتها بالمسؤولية؟
إن مراقبة محتوى ومضمون الرسائل التي يتم نشرها وبثها على الشبكة العنكبوتية التي قد تتخذ في كثير من الأحيان بعدا وطابعا دوليا، قد نجد له جذور متأصلة في القانون الداخلي للإعلام، أو في قانون العقوبات. لكن هناك إشكال يطرح بصدد التشريعات الداخلية في هذا المضمار، و هو كونها في حاجة إلى اجتهاد وإلى جهد من أجل خلق انسجام فيما بينها. بمعنى احترام بعض المبادئ المرتبطة بالتداول الحر للمعلومات، واحترام القضايا الجوهرية والعميقة ذات الصلة بحقوق الإنسان (خاصة حرية الرأي والتعبير). لأنه على الرغم من أن حرية التعبير والاتصال باعتبارها حرية أصيلة، لها حضور شامل على الشبكة العنكبوتية، أكثر مما هو عليه الأمر في الوسائل الأخرى، فإنها ليست أبدا حرية مطلقة. بل محدودة ومقيدة بموجب قواعد القانون وملازمة بشكل حتمي للمسؤولية إن على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي. لهذا، فالتشريع القانوني ضروري في هذا الإطار، ليعرف كل شخص حدود حريته الممكنة. ولا يتجاوز ذلك إلى التسيب الذي يؤدي إلى الفوضي المنافية للحرية في حياة الإنسان عامة.