بقلم: سعيد بوعيطة
”الجار قبل الدار، حكمة عربية قديمة تدل على مدى أهمية الجيرة ودورها في الاستقرار والأمن النفسي والاجتماعي بين الناس خاصة، وبين الشعوب بصفة عامة. لأن الجار هو الأقرب إلينا حين نحتاج للآخرين، وهو الأسرع في تلبية طلباتنا والأقرب لظروفنا، وهو المطلع على أحوالنا. يشاركنا في الأفراح والأحزان، في كل الأوقات وجميع الظروف. وقد أوصى الدين بالجار بشكل خاص، حتى قال الرسول الكريم: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وعلى الرغم من أهمية البعد الديني في هذا الجانب (علما بأننا لا نقدم دروسا في الوعظ والإرشاد ولا ينبغي لنا ذلك)، فقد ثبت بالملموس أهمية الجار والجوار(جغرافيا على الأقل) في الوقت الحالي. حيث تبنى عليه التحالفات السياسية، والعسكرية والاقتصادية باعتبار هذه الأخيرة (الاقتصاد)، أهم شيء في العصر الحديث. لهذا، أولى المجتمع المغربي سلطة وشعبا عبر التاريخ، أهمية قصوى للجوار والجيرة. لكن مع مرور الزمن، وتباين المصالح التي تبدو وطنية في ظاهرها وذاتية في باطنها، اختلفت علاقة الجيران بالمقارنة مع السابق، لأسباب وأخرى. مما باعد بين الجيران في المحيط الجغرافي الواحد، على الرغم من وجود قواسم مشتركة عدة من شأنها تحقيق التطور والتنمية لكلا الطرفين.
فلماذا هذا الجفاء الذي نعيشه مع جارنا بدون سبب حقيقي؟ وما هي الأسباب الممكنة الكامنة وراء ذالك؟ مهما تكون الأسباب والدوافع الواهية في أغلبها، فإن الجار هو الجار ولو جار كما يقول المثل المشهور. وإذا كان الإنسان يغير باب داره، لأنه كره تصرفات جاره ومقت سلوكه، فإننا (نحن المغاربة) لن نغير لا الباب ولا الدار، وسنبقى في مغربنا نحرس الباب والدار، ونردد كلمات الأغنية المشهورة لنعيمة سميح جاري يا جاري.
جاري يا جاري
يتذكر المغاربة منذ منتصف الثمانينيات، الأغنية الرائعة “جاري يا جاري” التي كتب كلماتها الزجال الراحل أحمد الطيب العلج، ولحنها الفنان الراحل عبد القادر الراشدي (رحمهما الله)، وأدتها أيقونة الغناء المغربي والعربي الفنانة المغربية نعيمة سميح. حيث كانت هذه الأغنية أنذاك رسالة واضحة موجهة للجار القريب والبعيد، ودعوة واضحة من المغرب على المستوى الفني، لتكريس ثقافة حسن الجوار وزرع المحبة والأخوة بين البلدان، والتطلع لغد مشرق أفضل، يسوده التعاون والتعايش والمساهمة في تنمية مستدامة مشتركة. بعيدا عن الضغائن واستعراض العضلات والقوة والتعالي. إلا أن حسن الجوار الذي ندعو إليه، وتدعو إليه كلمات هذه الأغنية، لا يعد ضعفا ولا استكانة. بل لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا. أو كما تقول كلمات الأغنية: (جاري يا جاري، جاري يا جاري ياللي، دارك حدا داري، خلينا نمشيو فالطريق، رفاگة و صحاب، العشرة و الدين و النسب).
ولأن المغرب المجبول على السلم والتسامح، يضع في الحسبان هذا المشترك بينه وبين جيرانه، فإن يده ممدودة على الدوام من أجل المصافحة والمصالحة وحسن الجوار.
جاري يا جاري، هذه يدي
يشهد التاريخ أن بلدنا المغرب، انتهج ولا يزال سياسة اليد الممدودة. مما جعل الشعب المغربي، يتعايش مع جميع الشعوب باختلاف توجهاتهم (السياسية والإيديولوجية، والدينية،…الخ)، حتى أصبح أرض السلم والتعايش بغير منازع. مما منحه بعدا إنسانيا وكونيا من خلال نهجه سياسة اليد الممدودة. لكن ليس باعتبارها موقف ضعف، أو تراجع عن قضاياه الأساسية، بل لكونه ينتهج سياسة حكيمة مفادها أن حسن الجوار والتعاون هو أساس التنمية على المستوى المحلي، والإقليمي والدولي. وأن كل قطيعة وكل سوء جوار، لا يخدم مصالح البلدان والشعوب في شيء. بقدر ما يفوت عليهم فرص التنمية والتطور. لهذا، تنطبق عليه كلمات الأغنية: (جاري لا تحسبني ضعيف، قادر نحمي نفدي الدار، لكن أصلي و طبعي شريف، و نفضل نمشي بالنهار). يؤشر النهار(هنا) على الوضوح والصفاء (المياه الصافية) وليس على المياه العكرة التي يحلو للفكرون(الغيلم) السباحة فيها. لهذا، على الجار تجاوز السباحة في الماء العكر وحالة الفكرون (الغيلم)، وتنظيف أحواله وأجوائه الخاصة، قبل النظر إلى أحوال جاره. وعليه ترتيب داره، قبل التركيز على دار جاره.
رتب دارك، عاد شوف جارك
إن تدخل الجار خارج حدود جغرافيته المشروعة، لا يجلب له إلا المزيد من المتاعب في وقت تبدو جغرافيته الخاصة في غنى عنها. كما أن نتائج أي مغامرة في هذا الشأن، قد لا تكون محمودة العواقب. لأنها تؤدي إلى إرباك المنطقة أو الإقليم. كما أن تدخل الجار في قضايا باقي الجيران، يجعله ينشغل عن وضعه الخاص (داره) وبين عشية وضحاها قد يجد نفسه في وضعية داخلية قذرة (كتاب الحرب القذرة لحبيب سويدية). لهذا، على الجار أن ينهج نهج الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة من تاريخها، عندما كانت محكومة بمبدإ رئيسها الأسبق جيمس مونرو (1758/ 1831)، الذي أرسى “مبدأ عزلة أمريكا” وانطوائها على مشاكلها الداخلية. للإعتناء بالبيت الداخلي قبل بيوت غيرها. لأن قوة الداخل، تساعد على تحقيق النفوذ الخارجي. لهذا بعد استراتيجية الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، قرر الرئيس فرانكلين روزفلت (1932/1945)، مراجعة استراتيجية جيمس مونرو بعد أن وجدت واشنطن نفسها فجأة سيدة العالم، أمام تراجع قوة ونفوذ أغلب الإمبراطوريات التقليدية، فرنسا وبريطانيا. لهذا، فإن الوضع الداخلي غير المستقر لبلد معين، وغير السائر في طريق التنمية، لا يؤهله أساسا لحل القضايا الخارجية. لهذا، يعد الاهتمام بالداخل وترتيبه قبل الخارج، من الأولويات الأساسية، وهي مسألة لا تخفى على أحد على المستوى العالمي. أو كما تقول كلمات الأغنية (راك عارف فاهم قاري). لكن الذي يركز على دار جاره قبل داره، يمضي في غيه وضلاله إلى أجل غير مسمى، وتنطبق عليه كلمات الأغنية (آش هاذ الغلط يا الخاوة راجع لحساب).
لا حياة لمن تنادي
على الرغم من أهمية الصداقات والتوافقات والتحالفات وأشكال التعاون المختلفة، فينبغي أن تقوم بين ذوات حرة ومستقلة، وليس على أنوات (جمع أنا) منتفخة وغارقة في رؤيتها النرجسية المرآوية لنفسها، وهويات خاوية، كل منها (نحن) بلا أفراد، و”هوية بلا ذات”، بتعبير الباحث فتحي المسكيني (كتاب الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة). مما يقودها إلى الخسران والإفلاس. ويجعلها تربط كل هزيمة أو محنة أو كارثة بالآخر/ الجار. مما يدل على الفقدان و الخواء الوجودي. لأن حسن الجوار، مشروط بالحرية والاستقلال شرطاً لازما. إنها حرية الفرد الذاتية واستقلاله الذاتي، بالمعنى الكانطي للاستقلال الذاتي وحرية الإرادة. لكن الذي لا حرية له ولا إرادة، لا ينقاد إلى الحق والمشروعية الحقة. و على الرغم كذلك من أن كلمات أغنية نعيمة سميح قد بقيت ترن في الأذن منذ منتصف الثمانينات إلى اليوم، فإن هذا الجار ينطبق عليه قول الشاعر عمرو بن ربيعة:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نار نفخت بها أضــــاءت ولكن أنت تنفخ في رماد