هل ينقذ الدستور آمال الرياضة الأولمبية في‮ ‬المغرب؟

صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “هل ينقذ الدستور آمال الرياضة الأولمبية في‮ ‬المغرب؟”. ونظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬بقلم: عبد الحميد جماهري

أعقبت منافسات‮ ‬أولمبياد‮ باريس موجةُ انتقادٍ عميقةٍ طاولت‮ ‬النتائج التي حازها المغرب،‮ ‬والتي‮ ‬جاءت مُخيّبةً للأمل‮، ‬وفتحت الباب لإطلاق نارٍ واسعٍ على الجامعات الرياضية في‮ ‬البلاد‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ويمكن تلخيص هاته النتيجة في‮ ‬جملة تداولها أصحاب الحسابات‮ في مواقع التواصل الاجتماعي‬،‮ ‬وكذا الهيئات السياسية المُعارِضة والمجتمع الرياضي،‮ ‬الذين‮ ‬تداعوا، من كلّ فجٍّ عميقٍ،‮ ‬إلى رفع شعارٍ احتجاجيّ‮ ‬يقول “60 مشاركاً من أجل المرتبة 60”.. ‬تلخيص بليغٌ‮ ‬لمرتبة المغرب في‮ ‬لائحة الميداليات المُتحصَّل عليها في‮ ‬هذا المُلتقى الدولي‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وقد عاد المغرب من المنافسات الأولمبية بميدالية ذهبية‮ ‬يتيمة،‮ ‬منحه إياها العدّاء سفيان البقالي،‮ ‬وهي‮ ‬المرّة الثانية‮ ‬التي‮ ‬يحظى فيها بتتويج دولي‮ كهذا ‬في‮‮ ثلاثة آلاف متر‮ ‬موانع،‮ وأخرى برونزية كانت من نصيب الفريق الأولمبي‮ ‬في‮ ‬كرة القدم بقيادة سفيان رحيمي‮. ‬علماً‮ ‬أنّ أفق انتظار الجمهور من أدائه‮ ‬كان فوق‮ ‬ما حصل عليه‮ ‬في‮ ‬الواقع‮. غير ذلك، ارتفعت في‮ المجالات والمواقع دعوةٌ صريحةُ إلى‮ “ربط المسؤولية بالمحاسبة‮”‬،‮ ‬وتراوحت بين المطالبة بإقالة المسؤولين‮ كلّهم ‬في‮ ‬الجامعات‮ (‬الفدراليات) ‬الرياضية ومحاسبة كلّ واحد على أدائه‮.‬‬‬‬‬

‬ومن الجديد أنّ‮ “‬ربط المسؤولية بالمحاسبة” ‬لم‮ ‬يعد‮ ‬مُجرَّد متطلّب أخلاقيٍّ، ‬يجد وازعه في‮ ‬ثقافة النتيجة التي‮ ‬تفرض على كلّ من أخلَّ‮ ‬بأهداف مسؤوليته أن‮ ‬يقدّم الحساب عنها أو تتم متابعته بسببها،‮ ‬بل أصبح‮ ‬بالأساس من أركان الحياة الدستورية المغربية،‮ ‬منذ توافقت القوى الحيّة على دستور “الربيع المغربي” في 2001. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬وهو النصّ الذي‮ ‬يقول في‮ ‬فصله الأول‮: “‬يقوم النظام الدستوري‮ ‬للمملكة على أساس فصل السلط،‮ ‬وتوازنها وتعاونها،‮ ‬والديمقراطية المواطنة والتشاركية،‮ ‬وعلى مبادئ الحكامة الجيدة،‮ ‬وربط المسؤولية بالمحاسبة”. ‬وتحتفظ الذاكرة المغربية بأنّ عملية تفعيل هذا البند‮،‮ ‬في‮ ‬سياق مغربي‮ متوتّر مطبوع بـ”حراك الريف‮” ‬في 7102 ‬قد افترض زلزالاً سياسياً، بِلُغة العاهل المغربي‮ ‬نفسه‮،‮ ‬جرت بموجبه إقالة وزراء عديدين، ومحاسبة مسؤولين ترابيين، وإعفاء آخرين‮. ‬ولعلّ هذا ما‮ ‬يجري استحضاره ضمنياً من خلال هذه الدعوة المُتجدّدة‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

بنود دستورية أخرى عملت، على‮ ‬غرار الفصل‮، ‬26‮ ‬على إلزام‮ ‬السلطات العمومية بتوفير ما‮ ‬يجب من وسائل لأجل‮ “‬تنمية الإبداع الثقافي‮ ‬والفنّي،‮ ‬والبحث العلمي‮ ‬والتقني‮ ‬والنهوض بالرياضة‮”، ‬مع الالتزام بـ”تنظيمها،‮ ‬بكيفية مستقلة،‮ ‬وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة‮”. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬أو الفصل‮ ‬33‮ ‬الذي‮ ‬ألزم‮ “‬السلطات العمومية باتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق تيسير ولوج الشباب للثقافة والعلم والتكنولوجيا،‮ ‬والفنّ والرياضة والأنشطة الترفيهية‮”.‬‬‬‬‬ ومن هنا، ‬يكون النقاش العارم مُؤطَّراً بالدستور،‮ ‬وهذا جديد للغاية‮، وفتح مقاربةً جديدةً تجمع بين التدبير والنتائج المتحصّل عليها، وأساليب التدبير المعمول بها في‮ ‬الميدان‮. ‬‬‬‬‬‬‬

في‮ ‬السياق الرياضي‮ ‬الحالي،‮ ‬صار واضحاً أنّ السقف الذي‮ ‬وضعته منجزات المغرب في مستوى كرة القدم،‮ ‬سواء في‮ ‬مونديال قطر 2022، أو في‮ ‬ربح منافسات دولية فئوية، أو من خلال تنظيم مونديال‮، ‬2030‮ ‬إلى جانب إسبانيا والبرتغال، أو من خلال احتضان كأس أفريقيا ‮‬2025،‮ هذه التراكمات كلّها قد جعلت أفق انتظار المغاربة عالياً،‮ ‬ويحُث على مزيد من العطاء في‮ ‬الرياضات الأخرى‮. ‬ولهذا‮، ‬يتعرّض المسؤولون‮ ‬فيها،‮ ‬من قبيل ألعاب القوى أو الملاكمة أو الجمباز أوالمُسايفة أوالسباحة أوالعدو بأنواعه،‮ ‬إلى الانتقاد،‮ ‬بتضمين إيحاء إيجابي‮ ‬حيناً بالدعوة إلى‮ ‬توفير شروط إقلاع جديد‮ ‬أو إلى انتقاد مفرط‮ ‬يكون‮ ‬فيه التضمين سالباً،‮ ‬يُطالب برؤوس المسؤولين،‮ ‬الفدراليين والأولمبيين.
‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولعل من الجدير بالإشارة هنا التذكير بأنّ مُقاربة‮ “‬الحلّ من الأعلى”، ‬التي‮ ‬جرى اعتمادها في‮ ‬كرة القدم،‮ ‬بالبحث عن فرديات مغربية في‮ أوساط مغاربة العالم،‮ ‬و‬أعْطت نتائجَ باهرةً بسبب الارتباط القوي‮ ‬للمغاربة في‮ ‬الخارج ببلادهم،‮ ‬هاته المقاربة لن تكون بالنجاح ذاته،‮ ‬لسبب بسيط، أنّ الفرديات المغربية في‮ ‬العالم‬، في‮ ‬المجالات الرياضية المعنية هنا ‬قليلة‬،‮ ‬إن لم نقل مُنعدِمة، في‮ ‬عديد من الشُّعب الرياضيّة،‮ ‬وهو ما صار‮ ‬يفرض‮ “‬الحلّ من الأسفل” أو الحلّ القاعدي‮، ‬الذي‮ ‬يستوجب سياسةً طويلةَ النَفَس، وإرادَوية‮ ‬ناجعة وطموحة‮، ‬تمسّ مناحي‮ ‬الحياة المجتمعية‮ كلّها (‬المدرسة،‮ و‬الجامعة،‮ و‬المجتمع المدني‮‬،‮ و‬قطاع الرياضة،‮ و‬الترفيه… وغيرها كثير).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮‬ومن المثير للانتباه أنّ الانتقادات‮‬،‮ ‬بقدر ما تستند إلى مبادئ دستورية فاعلة في‮ ‬النقاش العمومي،‮ ‬ترتكز‮ ‬كذلك على‮ “‬تشجيع‮” ‬ملكي‬،‮ ‬سبق أن كان موضوعَ رسالةٍ في‮ ‬المناظرة الرياضية، التي نظّمتها المملكة في ‮ ‬2008‬وما زالت تشكّل مرجعيةً قارّةً في‮ ‬تقييم الأداء الرياضي المغربي‮. ‬وعادت إلى التذكير بعناصره القوية، من قبيل قول الملك محمّد السادس إنّ‮ “‬من التجليات الصارخة لاختلالات المشهد الرياضي،‮ ‬ما تتخبّط فيه الرياضة من ارتجال وتدهور واتخاذها مطية من لدن بعض المتطفلين عليها للارتزاق أو لأغراض شخصية‮”.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وعلاوة على الرسالة الملكية،‮ ‬والدستور،‮ ‬تستند الانتقادات، في‮ ‬قراءة النتائج وما‮ ‬يجب أن‮ ‬يترتب عنها من مسؤوليات، على المرجعيات المفترض فيها تأطير السياسة الرياضية،‮ ‬من خلال الاستراتيجية الوطنية للرياضة‮ ‬2008‮ ‬ـ‮ ‬2020‮ ‬وهو ما كان موضوع تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، الذي‮ ‬سجّل‮ “‬تعثر تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للرياضة في‮ ‬أفق سنة 2020″، إذ ‬لاحظ أنّ‮ “‬أكثر من نصف المحاور والأوراش الهيكلية ظلت دون إنجاز”، ‬والمجلس الأعلى للحسابات، الذي‮ ل‬طالما كان أداةً في‮ ‬ربط المسؤولية بالمحاسبة، سجّل‮ “‬التطور البطيء لمعظم المؤشرات الرياضية”، ‬ودعا‮ إلى وضع‮ “‬إطار استراتيجي‮ ‬جديد‮ ‬ينطلق من نتائج تقييم حصيلة الاستراتيجية الوطنية للرياضة‮”.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮‬والرياضة‮‬، أحد المرتكزات القوية في‮ ‬صناعة النموذج المغربي‮ ‬للقوة‮ ‬المرنة (صوفت Pووير)‮، التي‮ ‬أكسبت المغرب إشعاعاً في‮ ظرف قياسي،‮ ‬صارت كذلك أحد عناصر التفكير في‮ ‬اللعبة الجيوسياسية،‮ ‬التي‮ ‬تتيح له تحويل نفوذه‮ انتظاراتٍ في المستوى عالمياً‮. ‬وما نسمّيها عادةً الديبلوماسية الرياضية‮، ‬صارت تفترض تفكيراً عقلانياً‮ ‬وسلوكاً ذكياً مقنعاً في‮ ‬المفاوضات الدولية،‮ ‬كما في‮ ‬حالة مونديال‮ 0302 ‬مثلاً،‮ ‬وما‮ ‬يستوجب ذلك من تدبير عقلاني‮ ‬وديمقراطي‮ ‬يحترم المعايير الدولية،‮ ‬والتشريعات ذات الأثر في الأداء الرياضي‮ ‬الدولي‮. ‬وهو ما يفترض‬،‮ ‬بالاستنتاج،‮ ‬وجود‮ ‬المغرب في‮ ‬ملعبٍ معقّد الأشكال‮، متعدّدها،‮ ‬يساير القوانين الدولية وقواعد التدبير الدولي‮ ‬الناجح‮.
‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‮‬ويبدو المرجع الأفيد ‬في‮ ‬تدبير صدمة أولمبياد باريس هو العودة إلى توصيات تفكير جماعي‮ ‬سبق للمملكة أن خاضته من خلال النموذج التنموي‮ ‬الجديد الذي‮ ‬يريده المغرب خريطةَ طريق في‮ ‬أفق‮ 5302،‮ ‬في‮ ‬صناعة القوة الإقليمية، والمركز الدولي‮.‬‬‬‬‬‬ ولعلّ المداخل‮ الناجعة قد تكون كثيرة، لكنّ الذي‮ ‬يبقى له قدرة على إيجاد تعبئة واسعة‮، ‬وتحويل الرياضة “‬خدمةً وطنية‮ً” ‬قادرة على هاته التعبئة،‮ ‬هو المدخل الدستوري،‮ ‬سواء من خلال الرقابة الصارمة في‮ ‬تطبيق المعايير المتعارف عليها دولياً في‮ ‬المجال‬،‮ ‬أو من خلال مراقبة‮ ‬المؤسّسات الدستورية‮ ‬‬مثل البرلمان،‮ ‬الذي‮ ‬حرّكته المُعارَضة في‮ ‬هاته النازلة، ومجلس الحسابات، أو من خلال تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة،‮ ‬وتحرير الرياضة من عِبئَين أساسيَين‬،‮ ‬أحدهما مرتبط بثقافة النتيجة، والثاني‮ ‬بالفساد السياسي،‮ ‬وهي‮ ‬قصّة أخرى تهزّ العديد من الكيانات الرياضية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬