لا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز

بقلم: سعيد بوعيطة

الذي كتب رسائله بخط اليد، يتذكر جيدا العبارة التي كانت تديل بها الرسائل «لا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز». قد تبدو هذه العبارة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل دلالات وأبعاد إنسانية عميقة. تؤشر على المحبة، و العلاقة الصافية والصادقة بين بني البشر. لأن وجه الإنسان يؤشر(من خلال هذه العبارة) على العديد من الأشياء الجميلة. لكونه يتخذ موضعًا مركزيًا في الجسد، ويمثّل انعكاسًا لمشاعره وأفكاره، وكل ما يجول في عالمه الداخلي. كما يتخذ الوجه أبعادًا مجازية أخرى، ترمز إلى الذات والهوية. لهذا، ٱرتبط الوجه بعبارات مختلفة من قبيل: تقابلا وجهًا لوجه، قالها في وجه فلان، أغلق الباب في وجه فلان، ابيضَّ /اسودّ وجه فلان، أشاح بوجهه عن فلان، أراق/صان ماء وجهه، وغيرها. كما إمتد ذلك إلى مجموعة من الأمثال الشعبية المتداولة: الله يعطينا وجهك، وجهو قاصح، ما عندو وجه علاش يحشم، سلفني وجهك، نوريك وجهك في المراية… الخ.

مما أضفى على الوجه مكانة مهمة ترتبط بجوهر الذات وعلاقتها مع الآخر بشكل مباشر. لهذا، حمله الفيلسوف إيمانويل ليفيناس (أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين) أبعادا، تتجاوز البعد الفزيائي/المادي إلى منظور جديد. فتح من خلاله تصوّرات لانهائية عن الذات والهوية، تعبّر عن فلسفة الماوراء. بمعنى ما يكمن وراء كل ما أظهره الإنسان للآخر.

النظر في الوجه العزيز

لا علاقة لهذا العنوان بالمجموعة القصصية النظر في الوجه العزيز للقاص المغربي السي أحمد بوزفور، على الرغم من قراءتنا لهذه المجموعة القصصية. يرمز الوجه في هذا السياق، إلى كل ما خفي وما تكنه دواخل الإنسان. ليصبح الوجه مرآة للقلب، على الرغم من أن المرايا المسطحة لا تعكس الحقيقة، بقدر ما تشوهها، فما بالك بالمرايا المقعرة أو المرايا المحدبة (فصل فيهما الناقد عبد العزيز حمودة القول من خلال كتابيه المرايا المحدبة (1998)، والمرايا المقعرة (2001) الصادران عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية في مجال النقد الأدبي). يحمل الوجه حسب ليفيناس مشاعر ونظرات، باعتبارها لغة أخرى لا تقلّ أهمية عن لغة الكلام التي يستخدمها الإنسان. مما يجعل الوجه خطابًا قائمًا بحدّ ذاته. إنه المعنى نفسه الذي تحمله (ولو بشكل ضمني) العبارة التي خطت بخط يد صاحب الرسالة ولا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز. لأن هذا الوجه العزيز(الحاضر والغائب بيننا في الوقت نفسه)، تربطنا به علاقة محبة وعلاقة إنسانية قوية. مما يجعل هذه الوجوه العزيزة، تؤشر على القلوب الصافية / الصادقة التي تجمع بينها المحبة الصادقة (وجه الأب، وجه الأم، وجه الأخ، وجه الأخت، وجه الصديق، وجه الجار…الخ). فهل هذه النظرة في الوجوه العزيزة ومحبتها الصافية، لا تزال سارية المفعول في زمن هيمنت فيه التقنية والمادة، وانحصرت فيه مجمل العلاقات في المصلحة الشخصية، وتراجعت فيه القيم والعلاقة الإنسانية، ليس بين الأنا والآخر (الأجنبي) فحسب، بل بين جميع أفراد الوطن الواحد والعائلة الواحدة والأسرة الواحدة (بين الإخوة، بين الأب/ الأم والأبناء ..الخ)؟ إذا ما كان الوجه في انكشافه و انفتاحه على الآخر، يخفي الكثير مما لا يمكن إظهاره كما يرى ليفيناس، فما الذي يكشف عنه هذا الوجه الذي أصبح ممسوخا، وتحول إلى مجرد قناع؟

من الوجه العزيز إلى القناع

إذا كان الوجه مستقلا وقائما بذاته، فإن القناع يقتضي ضمنيًا وجود وجه معين. وإذا كانت الوجوه تعكس باستقلاليتها أشخاصًا مختلفين، فإن القناع على اختلاف أشكاله، يكتسب مفهومه ومعناه من ارتباطه بأصل واحد وهو الوجه. بمعنى، يمكن لشخصين مختلفين أن يصيرا متطابقين إذا ما وضعا القناع ذاته. لكنّ الوجه المُجرّد هو ما يفتح احتمالات لانهائية من التعدّد والاختلاف. بل يمكن الذهاب إلى القول إن الاختلاف ليس بين الناس فحسب، بل يمكن أن يطال الشخص الواحد ذاته، ونزعته لازدواج الهوية أو حتى تعدّدها. حتى قال المثل الشعبي بنادم عندو جوج وجوه. ممّا يجعل ممّن يضع القناع، شخصًا آخر غير الذي يبدو عليه. لكنه أيضًا يحصره في ذلك الشخص/ الدور. كما يتخّذ هذا القناع أبعادًا فلسفية عميقة، تتعدّى فكرة القناع المادّي الذي يضعه الشخص فوق وجهه. لهذا، أطلق عالم النفس كارل يونغ مصطلح ”البيرسونا”، ويقصد به القناع الذي يرتديه الممثّلون في المسرح، لتأدية دور معيّن. كما يذهب يونغ بعيدا حين اعتبر ”البيرسونا” عبارة عن ”قناع اللاوعي الجمعئ، يتبنى الفردانية، يخدع من يضعه (صاحبه) كما يخدع الآخرين من حوله، ليصدّقوا أنه فرد واحد. لكنّه في الحقيقة الأمر، يُمثّل دورًا تتكلّم النفس الجمعيّة من خلاله. بمعنى أن ”البيرسونا” ليست وجهًا حقيقيًا، إنها بمثابة اتفاقية يوقّعها الشخص مع المجتمع. تتضمّن وصفًا وبنودًا للشخصية التي يمكنه أو يُسمح له بأن يكون عليها، واهمًا بأنها تكسبه صبغة فردية. وهنا، يلتقي تصور كل من كارل يونغ و ليفيناس من حيث المبدأ. لأن الوجه رغم تميّزه وتفرّده كعلامة فارقة للفرد وحده، يعكس في الوقت نفسه احتمالات متعدّدة. إنه مرآة الآخر الذي يذكّرنا باللاوعي الجمعي المختزن فينا. مما يجعل الوجه الحقيقي، يتحول إلى مجرد قناع. لتصبح الوجوه المقنعة غير عزيزة علينا. لأنها لا تؤشر على دواخل الإنسان، ولم تعد مرأة للقلوب/ المحبة.

لم يعد وجهكم عزيزعلينا

إن الأثر الذي أحدثه التحول من الوجه الحقيقي (العزيز علينا) إلى القناع المزيف (غير العزيز علينا)، جاء نتيجة التحولات العميقة التي عرفتها حياة الإنسان بشكل جذري. حيث أصبحت العلاقات الإنسانية لا يحكمها إلا الجانب المادي المبني على المصلحة الفردية. لهذا، لم تعد الأسرة هي تلك الأسرة التي نحس في أحضانها بالدفء الإنساني، أما طفل اليوم، فلم يعد هو ذلك الطفل الذي تشعر في نظراته بالبراءة، وبالسمو الإنساني، وأصبح المجتمع برمته محكوما بالمصلحة الفردية، ولم نعد نلمس فيه العلاقات الإنسانية، والمحبة الصادقة المتبادلة والأمان الإنساني. لقد تغيرت هوية الإنسان أو كادت تتغير. لأنها انفصلت عن محدد وجودها الثقافي والتاريخي والاجتماعي، واتصلت بالجانب المادي المجرد من القيم اتصالا بلغ بها رتبة اعتبار المادة الغاية الأولى والنهائية للوجود البشري. وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت هذه الأخيرة. لهذا، طغت الفردانية بشكل كبير. حتى انطبقت علينا كلمات الأغنية الشعبية راسي يا راسئ (الفنان الشعبي فيصل). لتبرز ملامح هذا التغير في انقلاب مفهوم الذات/الأنا، فلا ذات للإنسان ولا أنا له. لأنه انفصل عن ثقافته وتاريخه ومجتمعه، متوهما أنه يؤسس لذاته من خلال ما راكمه من ثروة مادية. هذا الجانب المادي الذي سد منافذ العلاقات الإنسانية القائمة على القيم الإنسانية والمحبة. لعل هذا ما جعل العبارة (عنوان المادة) تتحول إلى عبارة أخرى لم يعد وجهكم عزيز “علينا”، لأن المصلحة الفردية أصبحت فوق كل اعتبار. فهل فعلا الأمر كذلك؟ هذه هي المعضلة/ المسألة القائمة (إذا استعرنا العبارة من شخصية هامليت لويليام شكسبير). لكن إسقاط الأقنعة، وإزالة المساحيق والماكياج، وإعادة الوجوه إلى حقيقتها لتؤشر على القلوب الصافية، وتغليب المصلحة العامة على الفردانية، ستجعلنا نعيد الإعتبار لعبارة لا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز.