”بت هنا ننبت”
في البدء كانت الهواية، قبل أن تتحول الهواية إلى غواية في مختلف المجالات (غواية الرياضة، غواية الكتابة، غواية السياسة …الخ). يبدو أن غواية السياسة أشد من غيرها في باقي المجالات الأخرى. فإذا كانت غواية الكتابة ووهم الثقافة، لا تمنحك سوى صداع الرأس (كما يقال) وتغيير نظاراتك الطبية مرتين في السنة، لأن البصر ينطفئ، والرأس يشتعل شيبا، لأن الشوكة كما يقول المثل المغربي ”دكات فيك، ويتعذر إزالتها ولو ب ”المنكاش (مفردة متداولة أكثر بالجنوب الشرقي المغربي حيث واحات النخيل التي لم يعد بها نخيل في زمن المغرب الأخضر)، اللهم إذا سلخ الكاتب جلده (ليس بمفهوم السي محمد برادة)، ليغيره بجلد جديد أكثر نعومة يستلطفه الآخرون، حيث يتحول رجل العلم والمعرفة، والفكر من مجاله الرفيع، ليستدير نحو الساحة السياسية، كوظيفة مباشرة، وليس مجرد موقف عام أو نشاط جانبي أو حراك موسمي. فحتى وإن تعذر حتى هذه اللحظة، قبول سعي رجل العلم والمعرفة للاتّكاء على وظيفة سياسية، في ظل مجتمع موغل في التخلف الشامل، فإن غواية السياسة، تجعله ينظر إلى أعلى عليين بعيدا عن موضع قديمه، فيما ييمم السياسي المحترف، شطر حلقة التدريس في الجامعة أو حلبة الإدارة أو الاستشارة في مؤسسة علمية أو استثمارية، أو يعود باحثاً في معهد دراسات معين (واقعيا أو افتراضيا) أو كاتباً ومُحلّلاً لإحدى الوسائط الإعلامية، أو حتى كاتباً لمذكراته التي تكون في غالب الأحيان في غاية الدسم. لأنها تشبَّعت بالخبرة والمعلومات، وحفلت بالمواقف والمنجزات، إلى العشق الأزلي للكرسي. لكن ليس العشق هنا بالمعنى الصوفي/الروحي الذي يطهر الروح والذات، بل بالمعنى المادي الذي يحقق الثروة والجاه في ظرف وجيز. حيث يقفز ويتدرج العاشق (العشاق) من كرسي بواب العمارة، و كرسي حارس مرآب السيارات، و كرسي بائع الجوطية بباب السويقة بالمدينة القديمة، والكراسي البلاستيكية المهترئة بالمقاهي الشعبية، إلى كرسي الجماعة (قروية كانت أو حضرية)، و كرسي البرلمان و كرسي الوزارة الذي يكون أشد غواية، ولا يتزحزح عنه صاحبه قيد أنملة ولو استعنت بالتراكس الميكانيكية أو البشرية. ليقول للجميع مخرجا لسانه الطويل بنوع من السخرية: بت هنا ننبت.
من الغواية إلى اللعنة
لعنة جديدة تضاف إلى ما عُرف من لعنات عبر التاريخ، من لعنات السحرة إلى لعنة الفراعنة، إلى لعنة القبور المغلقة و الكنوز المستورة، إلى لعنات الجن والعفاريت، إنها لعنة الكرسي. ليس الكرسي المتحرك طبعا، لأن وظيفة هذا الأخير أساسية وله في ذلك أجر كبير. لكن الكرسي الثابت وغير المتحول الذي تكون للعنته شروطها الخاصة. فعلى الرغم من كونها لا تأتي من دون تأطير مكانيّ لها، إلاَّ أنَّها تتفلّتُ من إطار الزمان، لا سيما فيما سيأتي من الأيام. فإذا كان للكراسي قوانينها وأعرافها وأسرارها كذلك، بدأ بإبداء الولاء لمن سبق في الولاء إلى هذا الكرسي أو ذاك، مرورا بالمهموس به في الأروقة المظلمة، والأقبية المطمورة بالذهب لا بالتراب، والأنفاق المغروسة نفاقًا في الأعماق. وكلها أوراق اعتماد تقود إلى الكرسي الثابت، لما فيه من استمرارية بقاء، أما العامة، فنصيبها تتابع لألفة الهوان، والذل، والخنوع، وتأليه صاحب الكرسي.
صاحب الكرسي في خبر كان وأخواتها
في الفترة الممتدة بين الهواية والغواية واللعنة، يصل صاحب الكرسي إلى مشهده التراجيدي الأخير، حين تغدو هرولته وراء ذلك الكرسي المشؤوم، والتشبُّث به، سبباً مباشراً لحتفه. ليس بموته طبعا، لأن الموت أرحم بالإنسان. بل يصبح في خبر كان وأخواتها. ليس على المستوى النحوي الذي يعني الانصرام والانقضاء، وعفا الله عما سلف، وأن صاحب الكرسي أصبح من الماضي و أثرا بعد عين كما يقال. بل بالمعنى الذي حدده عبد القادر الشاوي في رواية “كان وأخواتها” بعد تجريد هذا المعنى من بعده السياسي وانفتاحه على شتى الأبعاد. فلطالما حدث هذا المصير المأساوي كثيراً للكثيرين من أهل العلم والفكر في هذا البلد الموغل في تخلفه، والذي انتقلت فيه تلك الخلافات السياسية والحزبية من منبر الخطابة والكتابة، إلى مرمى النيران والقصف المتبادل. فهل يجعل الكرسي بمختلف مستوياته (كرسي حارس العمارة، كرسي حارس المرأب، كرسي بائع الجوطية، الكرسي البلاستيكي بالمقهى، كرسي الجماعة، كرسي البرلمان، كرسي الوزارة) صاحبه في خبر كان وأخواتها؟ هذا مما لا شك فيه. فعين ابن آدم لا يملؤها إلا التراب (أو جوف ابن آدم)، وإن كان هذا التراب تبرا. لأن التبر (الذهب غير الخالص) نفسه يجلب اللعنة كما قالت شخصية أوخيد (الشخصية الرئيسية) في رواية التبر لإبراهيم الكوني. حيث يقول السارد: ( فذكره أوخيد بإصرار طفولي، ولكن يقال أنه ملعون ويجلب الشؤم/ص: 125). فتحققت نبوءة شخصية أوخيد، كما ستتحقق نبوأت أخرى. لأن لعنة الكرسي لا تبقي ولا تذر. وسيكون ذلك أمرا مقضيا.